قضايا وآراء

«أستانا 21».. بحث عن استعادة الثقة المفقودة

| عبدالمنعم علي عيسى

لربما كانت المناخات المتضاربة التي تلقي بحمولاتها على الملف السوري سبباً ثانياً إلى جانب سبب أول وهو الأهم كان قد تمثل في التحضير غير الكافي الذي سبق انعقاد الجولة الـ21 من مسار «أستانا»، في عدم خروج هذي الأخيرة بقرارات هامة، أو هي من النوع الذي يدفع نحو مزيد من التلاقيات التي بدا السبب الثاني كفيلاً ببقائها عند حدودها السابقة من دون تغيير.

قبيل نحو أسبوع من انعقاد الجولة الـ21 من مسار «أستانا» كان البرلمان التركي يصدّق على معاهدة انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، والفعل من شأنه بالتأكيد أن يرخي بظلاله السود على العلاقة الروسية-التركية التي ستحتاج، بعد هذه المحطة، إلى «وقفة» مطولة من الروس لتقدير حالة التراصف التركية الجديدة، ثم إلام ترمي أنقرة من ورائها، والأمر سوف تكون له تداعياته التي ستنعكس على جميع نقاط التماس المشتركة بين البلدين ومنها سورية. وقبيل يوم واحد أيضاً من انعقاد الجولة كانت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تنشر تقريراً مطولاً، بالتزامن مع نظير له نشره موقع «المونيتور»، يفيد بأن مداولات تشهدها العاصمة الأميركية وهي تتركز حول جدوى الوجود العسكري على الأراضي السورية، ويضيف التقرير إن تلك المداولات رجحت فيها، حتى الآن، كفة المؤيدين لتنفيذ انسحاب على كفة الراغبين بالبقاء، ثم يختم التقرير بالقول إنه على الرغم من أن الأمر لم يحسم بعد، لكن ثمة تفكيراً أميركياً بدا راسخاً بعد عملية «طوفان الأقصى» ومفاده أن الأثمان المترتبة على البقاء تفوق من دون شك رزمة المكاسب التي يحققها هذا الأخير.

وفق المناخات السابقة التي شكلت المعطى الأول، أي الموافقة التركية على انضمام السويد إلى حلف «الناتو»، عاملاً سلبياً، بعكس الثاني المتمثل بتفكير أميركي بتنفيذ انسحاب من الأراضي السورية الذي كان من دون شك ذا تأثير إيجابي على محور أنقرة- موسكو الذي يمثل العصب الأقوى للمسار، بل إن حركته، تنافراً أو انسجاماً، هي التي يمكن لها أن تحدد مسار العربة، وكيف سيمضي، ثم إلى أين يجب أن يصل، نقول وفق هذه المناخات التي تأرجحت ما بين سلب وإيجاب جاء البيان الصادر في نهاية الجولة ليعكس وضعاً يشير إلى أن «الكل» موقن بأن استمرار المسار هو أفضل من اتخاذ قرار بالتوقف حتى ولو اقتضت الضرورة أحياناً أن تكون الخطوات للخلف على أمل أن يتم تعويض التراجع الناجم عن هذا السير «التراجعي» في محطات مناسبة لاحقة يجري فيها تطبيق سرعات متزايدة.

يقول البيان الصادر عن «أستانا»: «تم التأكيد على وحدة الأراضي السورية، وإقرار آلية مشتركة روسية- تركية- سورية لحماية المدنيين»، كما تم التأكيد على «ضرورة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بإشراف الأمم المتحدة» وعلى أهمية «المحافظة على وقف إطلاق النار في إدلب»، قبيل أن يشير البيان إلى ضرورة «التصدي للمخططات الانفصالية في سورية»، وذلك كله لا يعدو أن يكون «صورة فوتوكوبي» للبيانات الصادرة عن كل الجولات العشرين التي سبقت هذه الجولة الأخيرة، فالتأكيدات عينها لم تتغير، ولم يطرأ عليها أي جديد، الأمر الذي يطرح إشكالية كبرى هنا، فإذا ما كان «الكل» متفق على كل هذي الثوابت التي لم تتغير لديهم رغم المنحدرات والمنعطفات والمطبات الخطرة التي شهدتها ملفات عدة مشتركة خلال ما يقرب من ثماني سنوات، هي عمر المسار، فلماذا إذاً كل هذا «الستاتيكو» الذي تشهده ملفات سورية عدة لها علاقة مباشرة بهذا الأخير؟ ثم ماذا ينتظر «الكل» بعد هذه الأوضاع السورية التي تتزايد مؤشراتها على إمكان الولوج نحو منزلقات لا شك ستكون غاية في الخطورة فيما لو وصلت معطياتها إلى حدود النضج؟

قد يكون الجواب الوحيد الذي يمكن افتراضه رداً على تلك التساؤلات هو أن «العثرات» التي لطالما تراكمت على طريق التقارب السوري-التركي هي التي تمثل «كلمة السر» التي تحول دون اكتمال الحل في لوحة الكلمات المتقاطعة التي يعمل ذاك «الكل» على حلها، ومن الراجح في هذا السياق أن الجولة الـ21 كانت قد حملت في طياتها مؤشرات توحي بالعثور على بعض الأحرف من تلك الكلمة التي تحتوي على العديد منها وظلت عصية على العثور، وما يدعم هذه الفرضية ما سربته بعض المنصات عن أن حديثاً جرى، خلال الجولة، حول إمكان عقد قمة رباعية، روسية سورية-تركية-إيرانية في موسكو خلال العام الجاري، وذاك فيما لو حصل أمر سيفضي إلى تحديد «جذر» الكلمة المفقودة كسبيل ناجع للوصول إلى كل أحرفها الباقية، من دون أن يعني ذلك أن انعقاد القمة سيؤدي إلى طي ملفات الخلاف كلها، فتلك مسألة أخرى تحتاج إلى جهود تتركز حول استعادة الثقة المفقودة بين الطرفين، ثم تقديم هذين الأخيرين لكشف يبين مراميهما النهائية من التسوية على أن تضمن باقي الأطراف أن ذاك «الكشف» نهائي ولا مجال لوجود آخر «غير معلن»، لكن يبقى انعقاد القمة المفترضة خطوة كبيرة من شأنها جسر هوة سحيقة كان القطار فيها يسير على جسور محمولة ظلت تؤدي مهامها حتى أواخر عام 2010، لتأتي «لحظة» آب 2011 وزيارة وزير خارجية تركيا حينها أحمد داوود أوغلو إلى دمشق، فتطيح بكل تلك الأعمدة الحاملة للجسور دفعة واحدة، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه فما كشفته هذه الأخيرة كان يؤكد أن أنقرة- رجب طيب أردوغان كانت تستهدف دولة لا نظاماً.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن