ليسَ جديداً على الفرنسيين فكرة التظاهر حتى لمجردِ التظاهر، مع العلم أن التظاهرات والاحتجاجات في فرنسا على الأقل خلال العقدين الماضيين لم تغير أياً من الأفكار الحكومية أبداً بل إن كل ما جناه الفرنسيون مزيداً من التعطيل والعنف لا أكثر.
لكن في الاحتجاجات الأخيرة التي دعت إليها نقابات القطاع الزراعي والمزارعون أنفسهم كان هناك ما يلفت النظر بمعزلٍ عن أحقية المطالب من عدمها:
الأمر الأول هو الحديث عن خلو هذه التظاهرات والاحتجاجات تقريباً من وجود فرنسيين من أصول غير فرنسية، طبعاً السبب واضح لأن مهنة الزراعة هنا هي مهنة متوارثة فالأراضي المسجلة زراعية لا يمكن العبث بها أو تحويلها إلى نشاط غير زراعي، أما عملية البيع لهذه الأراضي فهي لم تكن يوماً تثير اهتمام رأس المال غير الفرنسي لأنها بمعظمها أراضٍ شاسعة لا تناسب أفكار الاستثمار الأجنبي الذي يبحث عن الربح السريع، هذا الخلو من العنصر المجنَّس في التظاهرات فتحَ الباب على مصراعيه لعودةِ بعض الأفكار العنصرية، فهناك مثلاً من يرى بأن خلو التظاهرات والاحتجاجات من هذا المكوِّن للمجتمع الفرنسي جعلها سلمية وخالية من مظاهر الخلع والتكسير، هناك من حاول أن يكون أكثر تحضراً عندما قال إن خلو الاحتجاجات من هذا المكوِّن سحب من يد الحكومة ورقة مهمة كانت تستخدمها للإساءة للاحتجاجات، هنا نرى وجهة نظر تناقض مثيلتها لكن في الحقيقة كلاهما لا يقلان عنصرية عن بعضهما البعض، هذا يعطينا درساً في الحياة بأن علينا فعلياً ألا ننخدع بالعناوين العريضة أو التصاريح المغلفة برداءٍ إنساني يخفي ما يخفيه من سواد.
الأمر الثاني اللافت للنظر هو الشعار الذي رفعه الفلاحون «إذا جاعَ الفلاح فأنتم ستجوعون»، حقيقة يبدو هذا الشعار عابراً للحدود، القارات، المجتمعات، الحكومات، هذا الشعار يجب أن يُوضعَ نسخة منه في كل الدوائر الحكومية صاحبة القرار لأن الزراعة هي الجوهر الذي تستمد منه القطاعات نورَ البقاء ونورَ الاستقلالية.
أعترف بأن هذا الشعار لفتَ نظري كثيراً لكني أعترف في الوقت ذاته بأن ما يعانيهِ المزارع الفرنسي لا يساوي جزءاً بسيطاً مما يعانيهِ المزارع في بلداننا العربية عموماً وسورية بشكلٍ خاص وهو ما يهمني كمواطنٍ عربي سوري، هذا الشعار يثبت بأن الوجع في هذا العالم قد يكون واحداً لكن طريقة التشخيص والعلاج له تختلف بحسبِ مهارة الطبيب، والبنى التحتية التي يعمل فيها والأدوات التي يستخدمها لنصل إلى الخلاصة الأهم:
لا تجعلوا الفلاح يجوع.. لأن جوعه لا يعني جوعنا جميعاً فحسب لكنه صورة عن إخفاق غير مسبوق.