تراجعت وزارة التربية عن تطبيق الأتمتة على امتحانات الشهادة الثانوية هذا العام، بعد النتائج السيئة للامتحان التجريبي ولاسيما لمادة الرياضيات والامتعاض الطلابي الكبير.
وكانت الوزارة سعت إلى إلغاء الدورة التكميلية هذه السنة، وهذا ما أعلنه الوزير صراحة على عدة منابر إعلامية، فنص المرسوم على الإلغاء في العام القادم.
وكان الوزير أعلن رغبته في إحداث المجلس التربوي الأعلى، لتطوير البنية القانونية والتشريعية في وزارة التربية، لكنه سارع إلى اتخاذ كل القرارات التي يعدها مهمة، قبل أن يحدث ذاك المجلس.
ولعل سر استعجاله يكمن في حرصه على مساعدة وزارة التعليم العالي، للتخلص من صعاب تعانيها مع كثرة عدد الناجحين في الشهادة الثانوية العامة، وكثرة عدد من يحصلون على علامات عالية تخولهم التسجيل في الكليات المرغوبة.
لقد جرى التعبير عن هذا الهم، صراحة وبصوت عال، وتوج ذلك التعبير في سياق ورشة الاستيعاب التفاعلية التي أقامها الاتحاد الوطني لطلبة سورية، للمساهمة في مراجعة سياسة القبول الجامعي، ولاسيما أن تلك السياسة قادت حسب قول رئيسة ذاك الاتحاد، إلى أعداد هائلة من الخريجين من دون سوق عمل، والأهم من ذلك مسألة الجودة وكفاءة الخريج («الوطن»:15-1-2024).
وفي رأيي أن تلك المعاناة لدى وزارة التعليم العالي، لا علاقة لها بعدد خريجي الثانوية العامة، أو بكبر علاماتهم، إذ لا يعقل أن يجهر تربوي بطرح كهذا، فعلى مدى التاريخ المكتوب، كان التشجيع على الإقبال على العلم، صنعة الحكماء، وكان الاجتهاد سمة إيجابية تحتفي بها كل شعوب الأرض، بصفته السبيل إلى الإبداع والاختراع.
وهذه الواقعة ليست جديدة على سورية، لكنها الآن شديدة الغرابة، لأننا اهتدينا إلى حل لها منذ مطلع الألفية الثالثة وتلافينا أخطاء الاستعجال المدمرة.
ففي العام 1986 نجح في الشهادة الثانوية عدد كبير من الطلاب يفوق عدد الناجحين في العام السابق له بـ26 ألف طالب. استشاطت وزارة التعليم العالي غضباً ودعا وزيرها آنذاك، إلى مؤتمر صحفي قال فيه: أين سأستوعب هذا العدد الكبير..؟ اعتدنا زيادة محدودة في عدد الناجحين، خمسة إلى ستة آلاف كل عام. وارتأى استيعابهم في المعاهد المتوسطة المحدثة من أجلهم، وضغط باتجاه تحويل 70 بالمئة من خريجي شهادة- الكفاءة- آنذاك، إلى التعليم المهني والفني، في العام التالي، من دون أي بنى تحتية جديدة وأي رافد للموارد البشرية الماهرة، فعمق –عبر- هذا الإجبار القسري، النظرة الدونية للتعليم المهني، نظرة تعود إلى آلاف السنين تزدري العمل اليدوي وتبجيل ذوي الياقات البيضاء ومن يجلسون وراء المكاتب…!!
وتعافت سورية من هذه الخضة، عندما عرفت وزارة التعليم، وزراء وافقوا على افتتاح جامعات جديدة، عامة أو خاصة، فانتقلنا من 4 جامعات في العام 2000 إلى 32 جامعة، عامة (8)، وخاصة (24).
وما من شك أن المعاناة رجعت إلى الظهور بسبب التداعيات الاقتصادية المذهلة على سورية، فتضاءل عدد من يقبلون على الجامعات الخاصة (82 ألف طالب وطالبة فقط)، وأحجم للسبب ذاته أصحاب رؤوس الأموال عن الاستثمار في هذا المجال.
لقد كرر وزير التعليم العالي الحالي، اللجوء إلى التعليم المهني كحل، وأرى أن عليه أن يفعل ذلك بالتعاون مع وزير التربية عبر تفعيل القانونين 38 و39 اللذين يحولان 461 مدرسة مهنية و172 معهداً تقنياً إلى مراكز إنتاجية تدر ربحاً على الطلاب والمدربين والمدرسين والإداريين، ما يجعل حملة شهادة التعليم الأساسي يتهافتون على تلك المدارس وهذه المعاهد. وكان معاون الوزير لشؤون التعليم المهني في وزارة التربية قدم لي مثالاً منذ عامين عن طلاب مدارس مهنية في دمشق يتقاضون 200 ألف ليرة شهرياً من عملهم في مصنع خاص.
إن الإكثار من هذه الأمثلة إعلامياً، سيغير الموقف الشعبي من التعليم المهني وسيجعل الإقبال عليه يفوق الوصف، فلا تستهينوا بدور الإعلام في هذا المجال الوطني المهم، ولاتظنوا أنفسكم إعلاميين بمجرد أنكم كتبتم خبراً من دون زمان أو مكان…!!.