«الأعلام» مشروع الزركلي المكتمل بالرحيل … المتابعة والإتمام على نهج الكتاب الأصل
| إسماعيل مروة
خير الدين الزركلي الشاعر المشهور، واحد من أعلام المدرسة الشامية بعد رحيل العثمانيين، وبناء الدولة الوطنية، الأديب الصحفي الشاعر الذي ناضل بقلمه وقافيته وما يملك من أجل مقارعة الاستعمار والحصول على الاستقلال، فحكم بالإعدام مرتين، وغادر سورية ليعيش منفياً بعيداً، وحين حصل الاستقلال، وجاءت الدولة الوطنية، ضاقت بمناضلها وشاعرها وأديبها وفخرها، فبقي في عهدها منفياً، فأتمّ حياته في ظلها منفياً غريباً، ومات غريباً في القاهرة عام 1976 وهو يردد:
إن الغريب معذب أبداً إن حلّ لم ينعم وإن ظعنا
وخلّف إرثاً كبيراً من الكتب التاريخية، وكتب الرحلات، والديوان الشعري، ولعل أهم كتاب تركه هو كتاب «الأعلام» في التراجم، وهو ليس أهم كتاب له وحسب، بل هو واحد من أهم الكتب العربية التي صدرت في القرن العشرين، ولا يزال هو الكتاب الأكثر أهمية وقيمة بين أيدي الدارسين والباحثين منهجاً ومادة ودقة وعلمية.
حكاية «الأعلام»
عشق خير الدين الزركلي الصحافة، وأطلق أكثر من مجلة وجريدة، وأغلبها كان يغلق بعد العدد الأول في بيروت ودمشق والقدس، وأكبّ على الكتب، وعانى من حياة التشرد والنفي، فكان شأنه شأن ياقوت الحموي حين تحبسه الظروف لأوقات طويلة في بيته، ونتيجة مراجعته في الكتب خطرت له فكرة كتاب «الأعلام»، والتي يذكرها في مقدمته «في الخزانة العربية فراغ، وفي أنفس قرائها حاجة، وللعصر اقتضاء، يعوز الخزانة العربية كتاب يضم شتات ما فيها من كتب التراجم مخطوطها ومطبوعها، قديمها وحديثها».
وقام بعرض الفكرة على صديقه ورّاق بلاد الشام في القرن العشرين، وصاحب المكتبة العربية بدمشق الأستاذ أحمد عبيد، ووضعا معاً خطة الكتاب، وتولت المكتبة العربية نشر طبعته في الصورة الأولى، ونتيجة للخبرة لدى الرجلين العالمين، وقراءتهما في كتب التراجم، فقد وضعا في الكتاب الذي استقل به الزركلي خطة محكمة تختلف عن أي كتاب تراجم سابق في تراثنا، «وأهدى إليّ الصديق الوفي السيد أحمد عبيد، وهو من أعلم الناس اليوم بمخطوط الكتاب ومطبوعه، نسخته الخاصة من الطبعة الأولى، وكانت بين يديه نحو عشرين عاماً».
بينه وبين كتب التراجم
كانت كتب التراجم العربية تقتصر على منطقة جغرافية، أو على سنوات محددة، أو أن تكون تتمة لمرحلة سبقت مثل (فوات الوفيات) متابعة لوفيات الأعيان، أو الترجمة للنحاة أو المؤرخين أو سوى ذلك مثل «بغية الوعاة» وهذه الكتب كانت تتسم بالإسهاب كثيراً، إذ لا تترك شاردة إلا ذكرتها كما في (سير أعلام النبلاء) للذهبي، ما جعل تلك الكتب موسوعات تصعب العودة إليها في كثير من الأحيان، والمنصف حين يقرأ يجد أن تلك الكتب غصّت بالأهواء وأحكام القيمة، ولعلاقة كاتب الكتاب بمن يترجم لهم، ومن ذلك ما كان من ياقوت الحموي في (إرشاد الأريب) معجم البلدان، حين ترجم لمن هم أقل من المتنبي وأهمل أبا الطيب وأغفل ذكره، وكما كان من المحدث الثقة الذهبي في سير أعلام النبلاء وتعاطيه مع شخصيات مثل (الحجاج) وغيره حين أخضع الترجمة لرأيه وأحكامه، إضافة لما في تلك الكتب من توقير أو تحقير لا يحتاجه القارئ والباحث في عمله، وهو ما أشار إليه في مقدمته التي تمثل دوافع تأليف الكتاب «وجعلت ميزان الاختيار أن يكون لصاحب الترجمة علم تشهد به تصانيفه أو خلافة أو ملك أو إمارة أو منصب رفيع.. أو فن تميز به، أو أثر في العمران يذكر له أو شعر.. أما من أغدق عليه بعض مؤرخينا نعوت التمجيد وصفات الثناء إغداقاً.. من إطرائهم قائل بيتين واهيين.. ورصهم صفات الإمامة والعلم والهداية لراوي حديث أو حديثين، أو لمنفعة لم تسفر حياته عن أكثر من حلقة.. فقد تعمدت إهمال ذكرهم اجتناباً للإطالة».
الشمولية والسعة
العصر الذي وجد فيه الزركلي متعدد المشارب والتوجهات والانتماءات، وشهد اهتمام عدد كبير من العلماء غير العرب المستشرقين بالتراث العربي، ومهما اختلفت الدوافع والنيات لهؤلاء إلا أنهم قدموا خدمات جليلة للتراث العربي واستخراجه وتحقيقه وتقديمه، وبعض هذه الكتب قدموها بصورة تشبه الكمال في مرحلة مبكرة، وهذا ما دفع الزركلي لوضع تراجم للمستشرقين «وكان من حق الاستشراق فيما قدّمه بعض رجاله من خدمة للعربية، أن أترجم لجماعات منهم خلفوا آثاراً فيها: تأليفاً بها، أو نشراً لبعض مخطوطاتها، وأدخلت في عداد هؤلاء طائفة ممن كتبوا في لغاتهم عن العرب، وقد درسوا العربية، وإن لم يظهر لهم أثر فيها».
وفي هذا فائدة كبرى، إذ يحتاج الباحث والطالب لترجمة عن هذا المستشرق أو ذاك، وهو الذي أسهم في نشر التراث العربي، ولا يجد له ترجمة أو تاريخاً، فآلى الزركلي على نفسه أن يقدم له هذه المعلومات النادرة، والتي قد يستخف بها كثيرون عند رؤيتها، لكنهم سيعانون الصعاب وهم يبحثون عنها في المصادر والموسوعات.
المنهج والترتيب
اختار الزركلي لنفسه منهجاً علمياً صارماً، قد يعجز عنه أكثر الناس ادعاء للعلمية، فقد أبعد الهوى والميل عن أي ترجمة، واشترط الوفاة للمترجم له، ولم ينظر إلى انتماء أو ما يشبه ذلك، وكان خلال العام يجمع قصاصاته الجديدة ليقوم بإضافتها إلى الطبعة الجديدة التي يجب أن تستوعب الأعلام الذين رحلوا في هذه الحقبة، وذكر المقربون كما نقل الدكتور نزار أباظة بأنهم عثروا على بطاقات تحت مخدته على سرير المشفى كان يعدها للطبعة الجديدة..
رتب الزركلي كتابه على حروف المعجم بأوائل الكلمات، ووفق نظام معين لن ندخل في تفصيله، من حيث اللقب المشهور، ومن ثم الإحالة إلى الاسم مثل المتنبي = أحمد بن الحسين، المعري = أحمد بن سليمان، وأبي العتاهية وأبي تمام والبحتري وسواهم كثير، وهذه المشقة التي كلف الزركلي بها نفسه أعطت المفاتيح للباحثين، فقد يكون على غير دراية بالاسم الحقيقي الذي تندرج تحته الترجمة، لكن الشهرة هي التي تحيله إلى الاسم والترجمة، إضافة إلى أنه كان يرشد إلى مصادر الترجمة لمن يحتاج إلى مزيد.
الحجم والجديد
إن حجوم التراجم متقاربة، وليست متساوية، فبعض الأعلام ليست لهم الجهود أو المشاركات السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية مع أثرهم الكبير، وبعضهم هناك شح في المعلومات، فلم يلجأ رحمه الله إلى الإنشاء والإسهاب، وإنما اكتفى بالمعلومة العلمية وحدها من دون تزيّد، وزاد على كتب التراجم بوضع صورة إن وجدت، ووضع نموذج للخط إن وجد، ما جعل الفائدة أكبر وميزات الكتاب أعظم، وبالعودة إلى كتاب «الأعلام» لن نجد تراجم على حساب أخرى كما في كتب التراجم حتى المعاصرة منها، ولم يستثن الزركلي علماً من الأعلام لأنه لا يوافق هواه، ولم يرفع من يوافقه، بل إنه اجتمعت الشخصيات المتضادة فكان الزركلي علمياً مثل (سيد قطب وجمال عبد الناصر) وقد تقصدت في بداية حياتي العلمية أن أراجع هذه المتضادات لأعرف كيف ناقشها، فوجدت علماً وحيادية من الصعب أن يصل إليها باحث غير الزركلي.
وفاته والخسارة
توفي الكاتب والشاعر الجليل خير الدين الزركلي في القاهرة، فقد كان مقيماً في بيروت، وعندما بدأت الحرب الأهلية غادر إلى القاهرة، وتوفي في القاهرة عام 1976، وبذلك توقف كتاب الأعلام عند طبعته الأخيرة، ولم يعد هناك من زيادات وطبعات جديدة، فخسرت المكتبة العربية رجلاً عالماً سدّ فراغاً كبيراً كما أشار في مقدمته، وجرت محاولات عديدة لإتمام كتاب الأعلام لكنها لم تكن كما كان الزركلي يفعل.
المحاولات بعده
جرت محاولات عدة لمتابعة جهد الزركلي في كتاب «الأعلام»، لكن ذات المؤلفين أحياناً تطغى على روح العلم، فمنهم من تابعه ليعدد أخطاءه ويستدرك عليه، مع أن الكتاب الموسوعي يحتاج إلى فريق عمل متكامل، والزركلي يعلم أنه قد يفوته شيء، وذكر ذلك في مقدمته عندما شكر كل الذين أهدوه ملاحظاتهم ليتداركها، فكانت تجربة المتابعة لـ«الأعلام» في السعودية والأردن، لكنها كانت تجارب منفصلة لتحمل سمة النقد أكثر، ولم يكتب لها الذيوع لتكون تتمة لـ«الأعلام».
وفي دمشق عمل أستاذان جليلان هما د. نزار أباظة والأستاذ الراحل رياض المالح على متابعته تحت عنوان (إتمام الأعلام) وقد اختارا مع الناشرين نموذجاً جيداً، فأخذا الحرف نفسه في الأعلام، وقياس الكتاب، ولون الغلاف، ليتمكن الباحث من ضمه إلى الكتاب الأصلي، وقد اطّلعت من الإتمام على قسمين صدرا، وقد بذل د. أباظة جهداً مضاعفاً لرحيل صديقه المالح المبكر، ووفائه لاسمه في أن يتم المشروع على منهج الزركلي، وقد حالفه التوفيق في الأغلب، ولكن ما لمحته، وقد أكون غير مصيب بأن التراجم وحجمها لم تكن على نهج الزركلي، بل كانت بعض التراجم تطول من دون مسوّغ حقيقي، اللهم إلا الإعجاب أو الميل أو القرب، وحافظ أباظة على علمية الزركلي في تحديد الشخص وهويته وميله وآرائه، وكذلك في الإشارة إلى مصادر ترجمة العَلَم.
التمني أن تتم متابعة «الأعلام» على المنهج والقياس، وأن تشكل له لجنة دائمة تتابع ما بدأه ليبقى الكتاب زاداً للباحثين.
رحل الزركلي الشاعر المهم، والباحث الجدير، وسيبقى دائماً الزركلي صاحب كتاب «الأعلام»، الكتاب الأكثر أهمية وانتشاراً في القرن العشرين.