من دفتر الوطن

رجل الحقيقة إلياس مرقص

| حسن م. يوسف

تمر بنا بعد غد الثلاثاء الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل الفيلسوف السوري الياس مرقص الذي يعد أحد أبرز المفكرين والمثقفين الموسوعيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.
في عام 1974 أقيم المهرجان الأدبي للجامعات السورية في اللاذقية وكنت عضواً في لجنة تحكيم القصة القصيرة لفوزي بالجائزة الأولى في الدورة السابقة. أثناء المهرجان دعانا المفكر الياس مرقص إلى بيته وقد أذهلتني طريقته في الكلام، إذ كان يتحدث بعمق ووضوح وسلاسة كما لو أنه يقرأ من كتاب لا يراه أحد سواه. وعلى الرغم من انقضاء اثنين وأربعين عاماً على ذلك اللقاء، إلا أن الفكرة المركزية التي طرحها مرقص خلاله لم تغادرني يوماً لأنني ربيت أبنائي في ضوئها. قال الياس مرقص بما معناه: يجب ألا ننشئ أبناءنا على مبادئنا بل يجب أن نعلمهم حب الحقيقة بغض النظر عما نؤمن نحن به، فإن كان ما نؤمن به نحن صحيحاً، فإن حب الحقيقة سوف يرشد أبناءنا إليه!
نشأ الياس مرقص في مدينة اللاذقية من أسرة معلمين ميسورة، وقد روى الشاعر علي كنعان أن مرقص حدثه عن لقائه بالعقيد عدنان المالكي، «الضابط السوري المستنير» عندما كان يخدم العلم كمحرر مجند في مجلة الجندي. وهو الذي شجعه وربما مهد له السبيل للحصول على بعثة لدراسة علم الاجتماع والتربية في بلجيكا. وقد كانت تلك أول بعثة سورية بعد الاستقلال.
أثناء الدراسة انتسب مرقص للحزب الشيوعي وعقب عودته عمل كمدرس فلسفة لطلاب الثانوي في مدرسة جول جمال، ونظراً لثقافته الرفيعة فقد استقبله الحزب بحفاوة إلا أن الهزة التي أحدثتها أفكاره الجديدة في منطقية اللاذقية سرعان ما أزعجت القيادة المركزية رغم وصفها له بأنه «المثقف الاول». فطرد عام 1956 واعتدي عليه بالضرب مرتين، واتهم بالعمالة للمخابرات المصرية والأميركية(!) وقد ظل هذا جرحاً نازفاً رغم إعادة الاعتبار له لاحقاً.
أدرك الياس مرقص باكراً أن: «ما ينقصنا ليس هو الأيديولوجيا بل المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق…» وأعلن أن مثاله الأعلى ليس العلم، كما يرى الماركسيون، بل الحقيقة. «فالأيديولوجيا الماركسية ليست، بوصفها كذلك، حاملة الحق، ولا الأيديولوجيا البورجوازية بالضرورة حاملة الباطل».
كما أكد أن الأزمة تكمن في المثقّف العربي وليس في النظام، أو الحزب الحاكم. بعكس طروحات مثقّفي «اليسار الجديد»، والأهم من ذلك هو أنه كان يعتقد أن لا طريق إلى التقدّم والتحرّر العربيين من دون إعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعقلانية وديمقراطية، وتحقيق الوحدة على أساس الاختلاف والتعدد. لذا سعى لإحياء الفكرة القومية بين الشيوعيين، فاتهمه حزبه بالخيانة واعتناق الناصرية.
كان الياس مرقص يعتقد أننا: «إما أن نصير ذاتا وفاعلا وصانعا له وفيه – أي التاريخ- وإما أن نعود كما كنا قبل قرن مادة وموضوعا وسمادا لتاريخ ننخلع عنه وينخلع عنا».
كان يعتقد أن إلغاء الفرد والخاص هو إلغاء للعام. « وأن مشكلتنا كعرب لا تكمن في سيطرة «الفكر الديني» علينا، كما يرى كثيرون، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي».
كان يركز على الدور الجوهري للتعليم ويرى أننا: «إذا كنا نريد تطور الشعوب العربية، فيجب أن نبدأ من المثقفين، والشيء الذي يجب أن نستبعده هو المثقف المملوك، وأقصد بالمملوك السيد العبد أو العبد السيد، هذا النموذج الذي هو سيد على الضعفاء وسلطان عليهم وعبد أمام القوي».
كان يرى أن «مسألة المستقبل كبيرة جداً، وأنه إذا لم يتوافر الوعي المطلوب فسينهار كل شيء عربياً وعالمياً». وقد تنبأ بما يجري حالياً إذ عبر عن خشيته من حصول انتكاسة في نهاية القرن العشرين، «تعيدنا إلى الهمجية الأولى حيث كان الإنسان يأكل لحم أخيه الإنسان».
خلال الأعوام الماضية جرت أكثر من محاولة لاختطاف الياس مرقص وزج فكره في الحرب التي تشن على سورية لكن كل تلك المحاولات فشلت، لأنه رجل منذور للحقيقة.
كرموا ذكرى هذا الفيلسوف السوري الجليل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن