ثقافة وفن

الأبنودي.. و(عدى النهار)

| إسماعيل مروة

كانت النشوة بالمنجز والتغيير تغلب أرواحهم! أحسّ البسيط بأنه صار محور كونه ونقطة الاهتمام! لم يعد قادراً على الخروج من نشوته، وانهالت الأغنيات والقصائد من أسيوط وأسوان إلى رشيد والاسكندرية.. كل الناس أضحوا ثواراً، صاروا شعراء، وتنساب أغنيات الفخر، من وطني حبيبي الوطن الأكبر إلى السد العالي، إلى.. إلى.. وصلت النشوة إلى أرجاء الوطن الأكبر، وغدا البحث عن العريس الأسمر شرطاً لأغنية أضحت نشيداً.. والحالة تلك لا يمكن لأحد أن يغمطها حقها، فأفران أسوان تصهر الحديد، والسد العالي صار خيراً وأرضاً مزروعة بالأمل.. كانت النشوة وكان الأمل.. ومن دون سابق إنذار لم يدر المنتشون أن الأغنية وحدها لا تصنع وطناً، وأن الأوطان لها مستلزمات أخرى غير نشوة الإنجاز. وغير البحث عن عريس أو منقذ أو بطل..!
من دون سابق إنذار وجدت الأصوات أن ما قالته لم يعد صالحاً! وأن كل الألحان لا تلائم ما هبط فجأة، وأن القصائد لم تعد كافية أمام الدمار والخراب والموت والانكسار والنكسة..
سكت جاهين صاحب الأناشيد، واستمر سكوته، وخفوت صوته إلى رحيله..
منذ أيام كنت أسمع (دهب الزمان) لعثمان حناوي وهيام حموي، وما كنت أقرأ عنه أو أتخيله، بل ما يزيد عليه سمعته من تسجيل بصوت عبد الرحمن الأبنودي، الخال الصعيدي، الذي هزته النكسة وجعلت حبره جافاً، وغير قادر على الكتابة والإبداع، تحدث عن جلسة له مع عبد الحليم، وفي الحديث عبرة بل عبر عن دور الأغنية في الحياة والبناء، وفي المعركة، والطريف الذي يلمسه من يسمع التفاصيل أن الأبنودي وحليم كانا يحمّلان نفسيهما شيئاً من الهزيمة ونكسة حزيران، فهما والكلام للأبنودي عملا على شحذ الشارع وخداعه، وأنشدا أمراً جاء الواقع عكسه!..
فهل يتوقف الشاعر ومطربه، وكلاهما للثورة كان، وهي من أنجبته وأعطته؟
هل يستمران في حديث ليسا مقتنعين به؟!
هل يعترفان بالهزيمة، ويطلبان من الناس أن تنكفئ؟1
غير قادر على كتابة شيء يقول الأبنودي، ويعترف بمسؤوليته مع حليم عن جزء مما حصل بسبب تأثير الأغنية، لكنه يعيد قوله بأنه مؤمن بما قاله، ويعترف بالهزيمة، لكنه يؤمن بالقيامة أكثر، وبأن الثورة ثورته، وأن الأغنية أغنيته..
لم أستطع أن أتحرك قبل أن يتم الخال الأبنودي كلامه، لم أكتب، كنت غير قادر على الكتابة، وبلغة أخرى، لم يستطع الأبنودي أن يراوغ وأن يكذب! فماذا سيقول؟ عن أي انتصار يتحدث؟
إلى أي مواطن يتوجه؟
وحليم لم يقنع بأشعار الآخرين، وحدهما صلاح جاهين والأبنودي أصابهما خرس لحظة الصدق مع الذات، ولم تعد الذات الشاعرة لديهما قادرة على فعل شيء..
يعود الأبنودي إلى ديوان قديم، هو أول ما أنجزه ونشره، ويقدم لحليم قصيدة حزينة مملوءة بالغضب، ليظهر أن الأبنودي كان يملك حدساً، لكن حدسه امتزج بإيمان الإنسان بأرضه، وبأن الأرض ستخرج من جديد، وبأن رحم الأرض أكثر خصباً من الأرحام التي تسير عليها، فكانت القصيدة التي هزت وجدان الشاعر واللحن والصوت (عدى النهار)، وكانت صورة البلد الغجرية التي تغسل شعرها على الترعة، وكانت البحة المجرحة التي صدحت (أبداً بلدنا للنهار).. وكانت قصيدة الأبنودي طريق الخروج لهما مع اللحن الناي صدح في أكبر مسارح لندن بعد النكسة ليقول: أبداً بلدنا للنهار..
رحل حليم.. رحل بليغ.. وأخيراً رحل الأبنودي
وبقيت (عدى النهار) قصيدة التحدي والبقاء والوجدان التي تفوقت على كل نشيد حماسي كان يصدح بمئات الآلات الموسيقية.. بصوت وبحة وناي وآه مجرحة بقي الوطن، وانسرب في حنايا الروح..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن