ثقافة وفن

عام على رحيل سيدة الشاشة العربية … بدأت متميزة بـ «دعاء الكروان» .. وأحبت في «صراع في الوادي» وغادرت بصمت

| وائل العدس

قبل عام، رحلت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة «84عاماً» إثر أزمة صحية ليطوى بوفاتها عصر من الفن العظيم.
عندما تظهر على الشاشة يجد الإنسان ما يمكن أن يمتعه «شكلاً ومضموناً» في كل مرة يشاهد فيها هذه الأعمال وكأن حضورها أمام أعيننا يسعدنا بلحظات مسروقة من زماننا العصيب والصعب.
رغم غيابها واعتزالها الحياة العامة وكذلك رحيلها عن دنيانا ستبقى متربعة على القمة، بعد أن أهدت للسينما ما تجاوز المئة فيلم، تركت بعضها العلامات المضيئة في هذا التاريخ الطويل، وستظل حالة فريدة بما ملكته من قدرات وطاقات فنية مذهلة، جعلتها تحول ما تقدمه من شخصيات درامية في أفلامها إلى شخصيات تنبض بالحياة.
ظلت في ذاكرة الجماهير العربية لأكثر من خمسين عاماً مثل المناطق المحرمة التي لا يجوز الاقتراب منها، فهي من الشخصيات الفنية القليلة التي حافظت على صورتها ومكانتها عبر السنين، ولم تتورط مثل غيرها في تفاهات تفسد على الناس ما يحتفظون به من ذكريات عن أفلامها التي عاصرت تطور السينما عبر كل المراحل، لأنها بفنها ووجودها الطاغي كانت حلماً لكل الأجيال، فهي النموذج المثالي للفنان القدوة، وكان كل من يدخل مجال التمثيل يحلم أن يكون له الحظ في أن يقف أمامها ولو في مشهد واحد.
برحيلها تنجرح قلوب عشاقها من الرجال والشباب، إذ إن كل واحد كان يراها معشوقته الأولى عندما طرق الغرام بابه في أول الصبا.

شعلة البداية
«أنيسة».. الطفلة التي خطفت قلوب الناس، طفلة حادة الذكاء، ممتلئة الحيوية، تسبق سنوات عمرها، موهوبة بالفطرة، خلقت لتكون ممثلة، كان هذا هو الانطباع الأول الذي عبر عنه المخرج محمد كريم حين شاهد الطفلة فاتن حمامة، ليصرخ على طريقة نيوتن «وجدتها»، فقد أعياه البحث عن طفلة بمواصفات خاصة لتؤدي الدور حتى وجد ضالته بالمصادفة حين أقامت مجلة «الإثنين» مسابقة لاختيار أجمل طفلة وكانت والدتها قد أرسلت صورتها لتشارك في المسابقة والتي فازت فيها بلقب أجمل طفلة وطالع صورتها المخرج محمد كريم والتقاها مع أبيها ليجد نفسه أمام طفلة غاية في الموهبة والذكاء والحضور، كانت مساحة دورها صغيرة في البداية لكن موهبة الطفلة جعلته يمنحها مساحة أكبر ولم يبذل جهداً كبيراً في توجيهها فقد استوعبت الصغيرة الأمر بسرعة، وملأت الاستديو والفيلم حيوية كبيرة طوال فترة التصوير، وحين واجهت الكاميرا أدهشت الجميع بقدرتها على الأداء ببساطة وطبيعية وخطفت الكاميرا من بطلتي الفيلم وكانتا ذائعتي الصيت حينذاك وهما سميحة سميح وإلهام حسين، ولاقى الفيلم نجاحاً كبيراً وخرج الجمهور يتساءل عمن تكون هذه الموهوبة الصغيرة ويتردد اسم فاتن حمامة بقوة وتعاود العمل مع موسيقار الأجيال مرة أخرى في فيلم «رصاصة في القلب» وكانت قد بلغت 14 عاماً، ثم يختارها الفنان الكبير يوسف وهبي لتشارك في فيلم من إخراجه «ملائكة الرحمة» لتنتهي مرحلة الطفولة، وتبدأ مشوارها الفني كبطلة لنحو مئة فيلم.
وتعد خمسينيات القرن الماضي بداية الواقعية في السينما المصرية، وقد قامت فاتن حمامة ببطولة فيلم «لك يوم يا ظالم» عام 1952 وهو الفيلم الذي اشترك في مهرجان «كان» السينمائي، ثم شاركت الفنان الكبير عمر الشريف في فيلم «صراع في الوادي» عام 1954، وهو الفيلم الذي كان له حضور قوي أيضاً في المهرجان نفسه، لتشهد هذه الفترة حالة من النشاط الفني عندها، حيث ظهرت في تلك الفترة في 50 فيلماً، وكان المخرجون يسندون إليها أدوار الفتاة المسكينة والبريئة مثل فيلم «فاطمة» الذي أدت فيه دور طالبة في كلية الحقوق من عائلة متوسطة الحال تؤمن بأن دور النساء في الواقع لا يقل عن دور الرجال، وغيرها من الأفلام.

مرحلة النضج
أما مرحلة النضج الفني لدى فاتن حمامة، فاتفق معظم النقاد على أنها بدأت مع فيلم «دعاء الكروان» عام 1959 بعد أن اختير هذا الفيلم كأحسن فيلم سينمائي، ومنذ هذه اللحظة بدأت فاتن تختار أدوارها بعناية فائقة، حيث لعبت دور البطولة في فيلم «نهر الحب» عام 1960، وفيلم «لا تطفئ الشمس» لإحسان عبدالقدوس، وفيلم «لا وقت للحب» عن رواية يوسف إدريس، وإخراج صلاح أبوسيف، وأعد هذا الفيلم من أفضل الأفلام الوطنية التي قدمتها السينما المصرية، وقد أدت فيه فاتن دور الفتاة المتطوعة مع الفدائيين ضد قوات الاحتلال في منطقة قناة السويس عام 1951، وطرح الفيلم أحداثاً طبيعية بعيداً عن البطولات الملحمية والخرافية، عبرت خلالها فاتن بصرامة عن السلوك الطبيعي للفتاة الوطنية، بعيداً عن المغالاة وإقحام عناصر زائفة للدور الفدائي الوطني.
ورغم نجاحها الباهر الذي حققته على المستوى العالمي فإنها تحولت إلى جزء أصيل من الأسرة العربية وتركت بصمة مميزة في كل بيت بعد أن مرت في كل أدوارها بمراحل مختلفة من الفن الراقي فكانت «نعمت» مع حسن الإمام، وشابة تريد تغيير الواقع في «الباب المفتوح» وتربعت على عرش الشاشة بعد أدائها الرائع أمام صلاح شاهين ورشدي أباظة في «لا وقت للحب» «والليلة الأخيرة» و«الحرام» و«دعاء الكروان».
وفي فيلم «ليلة القبض على فاطمة» كانت صاحبة دور وموقف ورسالة وحصلت على مرتبة الأم والأخت، فلاحظ النقاد أثناء تأديتها هذا الدور أنها تحولت إلى أم حقيقية لم تلد، ببراعة أدائها واقترابها من الشخصية ومعرفتها لأدق تفاصيلها وبنبرة صوتها التي أشبه بأم حنون تغمرها العاطفة فاستقرت في قلوب الملايين واستحقت تلك الألقاب بجدارة وليست بقوة الأفيشات والصور العارية.

زيجات متعددة
وبالتدقيق في حياة سيدة الشاشة العربية الشخصية، نجدها قد تعددت زيجاتها، حيث تزوجت من المخرج عز الدين ذوالفقار، وأنجبت منه ابنتهما نادية، ثم طلقت منه، وتزوجت من الفنان الكبير عمر الشريف بعد اشتراكهما في فيلم «صراع في الوادي» وأنجبت منه ابنهما طارق، وظلت معه إلى أن أصبح نجماً عالمياً، ثم انفصلا، وتزوجت من الطبيب د. محمد عبدالوهاب.
وليس منطقياً أن نذكر زواجها من عمر الشريف من دون أن نتوقف أمام تفاصيل هذا الزواج، التي كانت مثيرة بالفعل، ففاتن في هذا الوقت كانت متزوجة من ذو الفقار، وكانت ترفض أي مشهد أو لقطة فيها قبلة أو ملابس ساخنة أو مشهد سرير أو حمام سباحة، في حين كان يتضمن فيلم «صراع في الوادي» مشهداً لعمر الشريف وهو ينزف بعد إصابته برصاصة أطلقها عليه حمدي غيث، وتأتي إليه فاتن حمامة لتحتضنه فانكفأت عليه وقبلته قبلة أذهلت الجميع ولم تكن قبلة سينمائية، بل كانت قبلة حقيقية، وطلبت بعدها الطلاق من ذوالفقار الذي ظل رأيه فيها حتى بعد الطلاق منه، والزواج من الشريف أنها نموذج للاحترام المستمر والتقدير العالي لشخصها وفنها، وهو ما تكرر مرة أخرى مع الشريف بعد طلاقها منه، فكانت تترك دائماً وراءها ذكرى طيبة وهي تنهي علاقتها الاجتماعية، وكان من أبسط الكلمات التي قالتها عند الزواج: «إن الزواج في نظري هو الصحبة المتوافقة في أبسط الأشياء، والإنسان الذي يفهمني وأفهمه هو الحب الحقيقي، الحب هو الراحة النفسية والكلمة الصادقة بعد أن اخترت شريك حياتي الذي أقضي معه ما يتبقى من العمر».
سيدة الشاشة

لم يكن لقب سيدة الشاشة العربية هو اللقب الوحيد الذي اقترن بها، حين لقبها بعض النقاد وصناع السينما بعدة ألقاب كان أشهرها «سيدة الشاشة العربية»، والذي ظل يلازمها رغم أنه أغضب كثيرات من فنانات جيلها في ذلك الوقت، وخاصة بعدما أكد العديد من النقاد أنها تستحق هذا اللقب بلا منافس، لكونها علامة بارزة في السينما العربية، عاصرت عقوداً طويلة من تطور السينما المصرية، وساهمت بشكل كبير في صياغة صورة جديرة بالاحترام لدور السيدات بصورة عامة في السينما العربية منذ أن بدأت مشوارها الفني.
ويكفي أنه أثناء احتفال السينما المصرية بمناسبة مرور مئة عام على انطلاقتها كان لها الرصيد الأكبر، حيث تم اختيارها كأفضل ممثلة، وتم اختيار 18 فيلماً من أفلامها ضمن أفضل ما قدمته السينما المصرية.
كما كانت – بعيداً عن الفن – إنساناً تستحق كل تقدير.. فلم تكن فنانة قديرة فقط على الشاشة وواحدة من أهم نجمات السينما، بل أيضاً قديرة على مستوى الحياة العامة والخاصة، فظلت دائماً حريصة على صورتها أمام الجمهور في كل ما يصدر عنها. فنانة وإنسان تحمل موهبة عظيمة وتتمتع برقة وهدوء وثقافة وذكاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن