يبدو من الواضح أن الولايات المتحدة لا تضارعها أي قوة أو دولة استعمارية في العالم فيما سجلته في تاريخ المذابح والحروب التي شنتها سوى إسرائيل، وليدة الاستعمار الاستيطاني البريطاني الذي صنع الاستيطان الأوروبي في أميركا، فمنذ عام 1800 حتى الآن شنت الولايات المتحدة 108 حروب في العالم وفي العقود الأولى من الألفية الثالثة شنت أكثر من عشر حروب كبرى في أقاليم مختلفة في أفغانستان عام 2001 وفي العراق 2003 وفي كل منطقة الشرق الأوسط في العقد الثاني من 2011 وحتى الآن، ومنذ عام 2001 شن الكيان الإسرائيلي الجزء المصغر من الولايات المتحدة في المنطقة، عشر حروب بعضها ضد دول مجاورة وأخرى ضد الشعب الفلسطيني في داخل الأراضي المحتلة، ولكنه على خلاف الولايات المتحدة، لم يستطع الحيلولة من دون أن تنتقل الحرب إلى جبهته الداخلية إضافة إلى جبهات حربه على الجوار على الرغم من كل ما شنه من حروب لتحقيق أهدافه التوسعية.
على غرار حلفائه، الأميركي والبريطاني والفرنسي، كانت الحروب وأشكال العدوان العسكري جزءا لا يتجزأ من وظيفة الكيان الأساسية التي صنع من أجلها، لكنه في ظل الظروف التي يواجهها من حربه الراهنة في قطاع غزة، أصبح يحتاج إلى مشاركة قوات مباشرة من الدول التي صنعته وتبنت أهدافه، وهذه الحقيقة ظهرت جلية حين أرسلت واشنطن حاملتي طائرات وقوات وذخائر لنجدته في حرب على مساحة 350 كم2 ضد سكان مدنيين ومقاومتهم، وثبت أنه فقد وظيفته ولم يعد قادراً على تلبية المهام والوظائف التي حددتها له قوى الاستعمار التاريخية في المنطقة، بل إنه لم يستطع إيقاف المقاومة ضده طوال خمسة أشهر من أيام هذه الحرب المستمرة رغم وحشية عملياته ضد المدنيين.
يلاحظ الجميع أن هذا الكيان والكيان الاستيطاني الأوروبي الأبيض في قارة أميركا الشمالية، يجمعهما قاسم مشترك هو عدم التوقف عن شن الحروب وأشكال العدوان طوال تاريخ وجودهما، بخلاف أن الأوروبيين اليهود الذين نقلتهم بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي إلى فلسطين أصبحوا أقلية استيطانية أمام أغلبية فلسطينية تحيط بهم في كل أرجاء فلسطين المحتلة ولا تزال طوال 75 عاماً تقاوم استيطانهم واحتلالهم، ولا شك أن تاريخ القوى الكبرى في القرنين الماضيين يثبت أن دول الاستعمار التاريخية القديمة كانت تتعرض لتآكل قدراتها على الاحتفاظ بمستعمراتها باستثناء الإمبريالية الأميركية التي ورثت مستعمرات تلك الدول بعد حربين عالميتين، وفي تحليل نشره «مركز أبحاث كاتو للدراسات الاستراتيجية» في الثاني من شباط الجاري تساءل المركز عما إذا كانت الولايات المتحدة ستتحمل شن حروب إلى الأبد؟ ويبين أن الشرق الأوسط شهد خلال معظم أوقاته حروباً وأشكال تدخل عسكري هزم في بعضها مثل أفغانستان والعراق ولبنان، وأجبر على سحب قواته ولم يبقَ له في العراق سوى بضع آلاف، وكذلك الأمر في شمال شرق سورية حيث تجري مقاومة مستمرة ضد هذه القوات والمطالبة بانسحابها، يضاف إلى ذلك أن قوات وقدرات محور المقاومة في قطاع غزة وفي جنوب لبنان وفي سورية وفي العراق وفي إيران واليمن، أصبحت تشكل كتلة مقاومة موحدة ضد الكيان الإسرائيلي وضد أي تدخل عسكري يستهدف هذه الدول وخاصة لأنها تشكل في الوقت نفسه دولاً وأطرافاً مستقلة في قرارها وفي استراتيجيتها ضد الاحتلال ومن أجل استعادة كل الحقوق الفلسطينية وأراضي الجولان السوري ومزارع شبعا وما حولها من أراضٍ لبنانية محتلة، ولا شك أن كل ما تحققه المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة سيشكل رصيداً قوياً لكل ما تتطلع إلى تحقيقه أطراف محور المقاومة في استراتيجيتها القائمة على حماية قراراتها المستقلة مثلما سيشكل عاملاً لتفتيت القدرة الإسرائيلية والأميركية في الوقت نفسه، وهما القوتان اللتان تعرقلان استقرار المنطقة واستقلال معظم دولها خلال قرن من الحروب العالمية والإقليمية.
يبدو أن ظروف الساحة العالمية والصدام الحربي غير المباشر بين واشنطن وموسكو في أوكرانيا والتهديد بشن حرب أميركية على الصين، جعل الساحة الدولية تقبل على مرحلة متسارعة وحاسمة في نتائجها لمصلحة جميع المناهضين للهيمنة الأميركية وغطرستها الحربية، وقد ازداد في هذه الأوقات التداول النظري باحتمال نشوب حرب عالمية غير نووية تؤدي إلى تآكل الهيمنة الأميركية ويصبح العالم أمام خيار حتمي لصياغة نظام عالمي متوازن يحقق العدالة للجميع ويحرر الشعوب من هذه الإمبريالية والكيانات التابعة لها في هذا العالم.