أعترف أنني لم أرتح يوماً لإطلاق اسم (منظمات المجتمع المدني) على (المنظمات غير الحكومية) الـ NGO، فهذه التسمية تنطوي على إيحاء بأن هذه المنظمات تعبر عن إرادة ومصالح المجتمع المدني الذي تنشط فيه، والحقيقة أن هذه المنظمات غالباً ما ترفع شعارات براقة، معلنة سعيها لخير المجتمع من خلال تشجيعه على التفكير العقلاني المستنير… إلخ، إلا أن خلاصة ما توصلت إليه من خلال القراءة والمراقبة هو أن جل هذه المنظمات إن لم تكن كلها تعبر عن مصالح من يمولونها ومن يستفيدون من قروشها، وفي مقدمة هؤلاء قادة تلك المنظمات بالدرجة الأولى وبعض المشاغبين من الناشطين فيها.
والحقيقة أن هذه المنظمات اللاحكومية التي ترضع من ضرع أوروبا وغيرها، لم تكف يوماً عن تذكيري، رغم شعاراتها الطنانة، بمقوله مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون: «من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه».
صحيح أنني خلال العقود الماضية سمعت من عدة أطراف موثوقة أخباراً مخجلة عن حروب الشركاء القائمين على بعض المنظمات اللاحكومية في سورية، بسبب اختلافهم على اقتسام أموال الدعم التي تردهم بصورة سرية من حكومات الدول الغربية، ورغم ثقتي التامة بالمصادر التي سربت لي تلك المعلومات إلا أنني لم أثر الموضوع ولم أشر إليه من قريب ولا من بعيد، لعدم وجود وثيقة، لأنني حاولت طوال حياتي المهنية ألا أكتب بالاستناد إلى القيل والقال، عندما يتعلق الأمر بمن لا أتفق معهم.
غير أني أسمح لنفسي الآن بالكتابة عن هذا الموضوع، بعد أن قرأت ترجمة المقال الذي نشرته جريدة «لوموند» الفرنسية للمفكر والروائي والشاعر المغربي إدريس الكنبوري حول «فضيحة مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي».
أشار الكنبوري في مقالته إلى أن معركة غزة «فضحت الجميع… فالبلدان الأوروبية تضغط على جمعيات المجتمع المدني في الدول العربية عن طريق المال كيلا تبدي مواقف مناهضة للعدوان الصهيوني».
وأفاد الكنبوري أن الدول الغربية تفرض على تلك المنظمات «شروطاً سرية غير مكتوبة» تتجلى في الممارسة؛ فقد أوقفت ألمانيا الدعم المالي لمركز الدعم القانوني للمرأة المصرية بعد أن ندد المركز مع 200 جمعية عربية، بالإجرام الصهيوني في غزة. وقد برر وزير الخارجية الألماني ذلك بقوله: «إن البيان مخالف للخط الذي تسير عليه برلين، وخاصة الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. وقد أمرت «السويد المنظمات المدنية الفلسطينية مباشرة: «عليكم إدانة حركة حماس»، حتى سويسرا التي تدعي الحياد أوقفت تعاقدها مع ثلاث منظمات مدنية فلسطينية لأنها لم تقم بإدانة المقاومة!
في دراسته أكد الكنبوري أن «جمعيات حقوق الإنسان في العالم العربي مهددة بفقدان كل الدعم المالي»، لأن الاتحاد الأوروبي أضاف بنداً جديداً لجميع العقود الموقعة مع جمعيات ومنظمات المجتمع المدني في الدول العربية ينص على أن تلك المنظمات يجب ألا تدعو إلى العنف أو الكراهية. يستنتج الكنبوري أن هذا الأمر لا يفضح الدول الغربية، بل يفضح المنظمات العربية غير الحكومية التي كشفتها غزة: وفي ختام مقاله يقول بوضوح: «لا توجد منظمات غير حكومية مدنية في العالم العربي، ما هو موجود فعلاً هو استعمار جديد من خلال تلك المنظمات».