ثقافة وفن

محمد سليم الجندي وطبقة نادرة من العلماء … أخلص للمعرّة وشاعرها أبي العلاء

| إسماعيل مروة

عالم عامل، لا وجود لأمثاله في زماننا وإن كثر المدّعون، العالم المتبحّر لغة وفقهاً ومعرفة، العالم الذي حفظ أساتذته كما يليق بالعلم، وأعطى طلابه كما يليق بالمعلم، المعلم الذي أدى واجبه كاتباً متنقلاً في مواقع الإنشاء، العالم الذي عاش تقلبات السياسة عن قرب في مراحل عمله، ولكنه لم يكتو بنارها لأنه كان منحازاً إلى العلم والإنجاز، العالم الذي عاش وفق حاجاته الإنسانية، لذلك اعتذر وابتعد، وجلس في محراب العلم فكان اسمه من أهم الإضافات العلمية محمد سليم الجندي، وكانت جهوده متفردة في العمل والإخلاص.

سيرته كما كتبها

مصدر ترجمته العلمية، ولا يقصد بها السيرة الذاتية، تمثل ترجمة العالم المتواضع الذي يضع الكلمة في ميزانها دون أي تكلف أو ادعاء، ومصدر ترجمته واحد خطه بنفسه، وقد وضعه بداية لكتابه (تاريخ معرة النعمان) الذي لم يطبع في حياته، ومن هذا المصدر أخذ الأستاذ عبد الهادي هاشم رحمه الله ما قدم به في كتاب (الجامع في أخبار أبي العلاء) الذي طبع قبل تاريخ معرة النعمان بعناية الأستاذ عمر رضا كحالة بعد عام واحد في وزارة الثقافة والإرشاد آنذاك.

يتحدث عنه زميله عضو المجمع عبد الهادي هاشم فيقول: «مثال العالم المتمكن، والمحقق الثبت والباحث الثقة، كان واسع المعرفة والرواية، ضليعاً في اللغة وعلومها وآدابها، بصيراً بأسرارها».

شهادة زميل له خبر عمله، أثبتها قبل أن يخرج من يخطئ الراحل باستخدامه «ضليعاً»! فمن أين حصل على علمه وتمكنه وخبرته وثقته ومعرفته وروايته ولغته؟!

ومن سيرته نقف عند مصادر ثقافته وعلمه، ومراحله التدريسية والوظيفية كما كتبها بنفسه دون تزيّد، ودون أن يدّعي ما ليس له، والقارئ الحصيف يجد البون شاسعاً بينه وبين من قدّم مجموعة من (الفصلات) الصبّرات ويدعي أنه حاز العالمية، بينما الجندي رحمه الله ملك العلم والتفوق، وتقدم إلى صفحات التاريخ على استحياء.

مراحل دراسته وعمله

1- حتى بلغت السابعة من العمر فوضعني عند الشيخ أحمد المعري وكان شيخاً صالحاً تقياً، حائكاً فراء، فعلمني أكثر القرآن الكريم.

2- وضعني عند الحاج قسوم وكان شيخاً صالحاً وتاجراً تقياً فأتممت القرآن عليه.

3- دخلت مكتب الحكومة المكتب الرشدي.

4- تفرغت للدراسة في المسجد الكبير في المعرة (وهنا تبحر في العلوم).

5- هاجرت إلى دمشق مع والدي وشرعت في التفقه على جهابذة العلم في دمشق، (وهم سادة العلماء دون ذكرهم هنا وقد أتم العلوم معهم).

6- اضطرني جماعة إلى أن أقرئهم فكنت أبتدئ في الدروس منذ طلوع الشمس إلى الظهر، ومن بعد صلاة ا لعصر إلى قرب نصف الليل.

7- مع الأمير فيصل والحاكم العسكري وظفت في ديوان الرسائل منشئاً أول فيه.

8- في ديوان الحاكم جعلت رئيساً لكتّاب القسم العربي.

9- جُعلت أستاذاً للأدب العربي في مدرسة تجهيز الذكور في دمشق وبقيت إلى سنة 1940 فأحلت إلى التقاعد.

10- وظفت أستاذاً للدروس العربية في كلية الآداب.

11- 1992 انتخبت عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق.

12- عينت ناظراً للكلية الشرعية ثم مديراً للكلية ثم استقلت طلباً للراحة.

هذه مراحل دراسته وعمله كما دوّنها، واختصرتها لطولها، والتي تمثل رحلة عالم كبير، أعطى نفسه لأساتذته في المعرة ودمشق، ومن بعد وهب نفسه لطلابه وعمله وعلمه.

مواصفات العالم

هناك صفات تستخلص، وصفات أخرى أوضحها بنفسه، وسواء اتفق معه معاصروه أو اختلفوا نظراً لشدته كما يشيرون، إلا أنه كان ثقة وثبتاً ومثالاً، ففي هذه الصفات المستخلصة:

– كان أستاذه فرّاء حائكاً، وأستاذه الثاني تاجراً تقياً، فأخذ عنهما أن يعيش من عمله، فبقي منشئاً وأستاذاً دون أن يعتاش على علمه.

– اللين والقدرة، فهو دون أن يحدد مذهبه يشير إلى أنه كان شافعي المذهب، ومع قدومه إلى دمشق لم يجد ميلاً إلى الفقه الشافعي، فتفقه في المذهب الحنفي وتبحّر على أيدي الكبار.

– في عباراته (وُظفت) (جُعلت) (عُينت) وفي هذه العبارات دلالة على فهمه العميق لطبيعة العمل والحياة.

– فهم دورة الحياة عندما يقول عُينت مديراً للكلية الشرعية، ثم استقلت طلباً للراحة، فهو ليس من ذلك الصنف الذي يستحوذ على الدنيا، ويتمسك بالمكان والموقع ولو كان بحاجة لطلب الراحة، أما الصفات التي يذكرها بنفسه، ولم نجد من يعترض عليها:

– أعلنت الحرب العامة فانصرفت عن التعلم والتعليم إلى مدافعة المصائب، وتهيئة ما فرضته الحكومة من المظالم والضرائب، بأسماء مختلفة، ما بين بدل عسكرية، وإعانة للأسطول، وإعانة لجمعية الهلال، وإعانة لغزة، وضريبة جبرية باسم إعانة اختيارية، وما شاكل ذلك من ضروب المظالم على أكثر عقارنا فشغلته بغير أجر ولا شكر، وعبثت بالأسعار حتى كاد أكثر الناس يموت جوعاً، إلا من عرف كيف يرضي الحكام والقواد.

– كنت في جميع هذه الأطوار التي قطعتها في حياتي شديد التواضع، لين الجانب، وكنت شديد الخشية من الله، شديد الغيرة على مصلحة الإسلام والعرب.

– لم أقترف شيئاً من المنكرات في جميع حياتي، إلا اللعب بالنرد، وشرب الدخان.

– كنت ولم أزل أقنع باليسير، وأشكر على القليل والكثير، وأرضى من الوفاء باللقاء.

– لم أبذل ماء وجهي قط لأحد.

– لا أعرف لأحد عليّ فضلاً إلا قابلته بمثله، لأن الله جل جلاله لم يحوجني إلى غيره في شيء، ما خلا أساتذتي، فإنهم علموني وهذبوني وأرشدوني لوجه الله، من غير أن ينالوا مني أجراً ولا جزاء، وقد احتذيت على مثالهم، فعلمت مئات من الناس، ولم أنل منهم أجراً قط، ولا أذكر أني أخذت أجراً من رجل على تعليمه قط، إلا واحداً ألحّ عليّ كثيراً، وألحت عليّ الحاجة وقتئذ، فآثرت أخذ الأجر منه، على إذلال نفسي في الاستدانة من أحد.

– لم آخذ قط صلة ولا جائزة عن شعري.

رؤوس قضايا أثبتها الأستاذ العالم محمد سليم الجندي، أولها شهادته على الحرب العامة العالمية وما جلبته من ويلات ومظالم.. ثانيها غيرته على ثنائية العرب والإسلام، ثالثها حديثه عن المنكر وبأنه لم يقترف سوى النرد والدخان، وهو بذلك، لا يبرئ نفسه من أن ما يفعله من المنكر، ولا يسلكه في السلك نفسه، رابعها قناعته، وهذه صفة من صفات العالم، فالرضا يمنعه من سفح وجهه، وهو النقطة الخامسة. والنقطة السابعة عدم أخذه أي صلة أو جائزة عن شعره وهو الذي كان يطلب منه الشعر طلباً، ويعترف في مواضع عديدة بأنه عاف هذا الأمر، ولا يعدّه شعراً بل هو تكلّف، فهل رأينا بأخلاق هذا العالم الذي يحكم على ما يقوم به بأنه تكلف، لكنه تكلف بلا تكسب، فالرجل الذي لم يبذل ماء وجهه قط، وكما رأينا في حديثه كل ما كلف به مبني للمجهول، أي يطلب منه دون سعي.. لم يسع إلى جائزة وهو الجدير العالم الكبير، بينما أنصاف وأرباع يزحفون للجائزة ويطلبون وهم في غنية عنها!!

هو وأساتذته منهج

لا فضل لأحد عليه غير أساتذته، علموه دون أجر، وتابع منهجهم وعلّم بلا أجر، والمقصود هنا حلقات البيوت والعلم، وليست الوظيفة، أما ما يهز القارئ المنصف هو اعترافه بأنه مرة واحدة تحت إلحاح الرجل والحاجة أخذ أجراً، كان بإمكانه ألا يقول ليدّعي الفضل، لكنه رجل عايش القرآن والعلم والزهد والقناعة لم يشأ إلا أن يكون شديد الخشية من الله فيذكر الحقيقة، وهذه هي النقطة السادسة أفردتها لأهميتها ولأنها تمثل منهج حياة المعلمين العلماء في زمن التغوّل والطمع في أي درس بما في ذلك العلم والتعليم، بل إننا صرنا نجد التعليم الديني الشرعي بمقابل مادي! فأين ابن حزم الظاهري الذي كان يصرف على طلابه؟ وأين العلماء الذين يرون العلم فوق المادة؟

المؤلفات بحر من العلم والتواضع

يذكر الأستاذ محمد سليم الجندي في ترجمته مؤلفاته:

1- الشعر، وهو عنده كثير، لكنه يرى أغلبه تكلفاً.

2- النثر، استطعت أن أضع بعض الكتب والرسائل:

(المنهل الصافي في العروض والقوافي، مرفد المعلم ومرشد المتعلم، أحكام ما، ومنْ، رسالة في الكرم، عدة الأديب، عمدة الأديب، امرؤ القيس أخباره ودراسة لأدبه، النابغة الذبياني شرح ديوانه كله، أبو العلاء المعري أخباره ودراسة أشعاره، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وطرف من أخباره وآثاره، رسالة في الطرق، رسالة في المعلمين، إصلاح الفاسد من لغة الجرائد، رسالة الأطعمة والأشربة في بلاد الشام، رسالة العادات في بلاد الشام، رسالة الأمثال العامة في بلاد الشام، تهذيب الألفاظ، رسالة في إخوان الصفا، تقريظ ديوان بدوي الجبل، تقريظ ديوان جميل صدقي الزهاوي، تقريظ ديوان خير الدين الزركلي، إنعاش اللغة العربية، نقد كتاب الأدب العربي للزيات، نقد كتاب زهر الآداب طبعة زكي المبارك، ثقافة المتنبي ومصادرها، التعريف برسالة الملائكة).

ومن أهم أعماله تحقيق رسالة الملائكة لأبي العلاء المعري، الجامع في أخبار أبي العلاء وآثاره في ثلاثة مجلدات، بعناية عبد الهادي هاشم ومروان البواب، وتاريخ معرة النعمان، في مجلدين بعناية المصنف عمر رضا كحالة صاحب المعجمات المشهورة.

أكثر رسائل الجندي طبعت في حياته في المجمع أو في مطابع خاصة وقد أفدت بإرشاد أستاذي مروان البواب من كتابة (الفاسد من لغة الجرائد) وأهم كتبه طبعت بعد رحيله.

هذا الرجل العالم الذي ترك عشرات الرسائل التعليمية المفيدة يقول: استطعت أن أضع بعض الكتب والرسائل!

هذا هو المثال للعالم هو وأساتذته، فأستاذه كان فرّاء لا يعتاش بالعلم، وأستاذه كان تاجراً لا يرتزق بالعلم، وأساتذته في دمشق عطا الكسم وبدران وغيرهما كانوا كذلك فكان على مثالهم علماً ورفعة وزهداً إلى أن توفي رحمه الله في تشرين الأول 1955 رحمه الله تعالى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن