يمضي الكيان الإسرائيلي قدماً في تنفيذ سياسته، ومواصلة عدوانه على قطاع غزة، والتحضير لعملية برية في رفح جنوبا، وكل ذلك في عالم منفصل عن كوكب الأرض، وبعيداً عن دعوات المجتمع الدولي لوقف العدوان والتحذير من أي عدوان بري على رفح مغبة وضع ما يقارب مليون ونصف المليون فلسطيني في عداد الشهداء والجرحى أو دفعهم إلى الهجرة عن جنوب القطاع إلى عالم المجهول.
بين جدية ما يتعالى من أصوات دولية في حث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على عدم الذهاب براً إلى رفح، وضرورة وقف العدوان من عدمه، والبوح به لمجرد رفع اللوم والعتب أمام الرأي العام العالمي، تتعالى أصوات الانفجارات، وتكثف قوات الاحتلال الإسرائيلي غاراتها العدوانية على مدينة رفح، في صورة تعكس أن ما يحدث بداية التمهيد لشن عدوان بري.
في المظهر الخارجي لسياسة الإدارة الأميركية، هناك من يحاول أن يسوق صورة عامة بأن تلك الإدارة على خلاف مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، لعدم التزامه بـ«النصيحة» الأميركية، ورغبة الأخيرة بتخفيف حدة العدوان على القطاع بشكل عام، وعدم الذهاب إلى عملية اجتياح بري لرفح، وهو ما ظهر في قول صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية يوم الأحد الماضي، إن الرئيس الأميركي جو بايدن، وكبار مساعديه أصبحوا أقرب إلى القطيعة مع نتنياهو أكثر من أي وقت مضى منذ بدء حرب غزة، ولم يعودوا ينظرون إليه كشريك يمكن التأثير عليه حتى في السر، وإن الإحباط المتزايد تجاه نتنياهو، دفع بعض مساعدي بايدن، إلى حثه على أن يكون أكثر انتقادا بشكل علني له بشأن العملية العسكرية في رفح.
إلا أن كلام «واشنطن بوست» وتسويقها بأن بايدن ليس إلا حملاً وديعاً، وقول الأخير في إفادة صحفية في البيت الأبيض في التاسع من الشهر الجاري: «أنا أرى، كما تعلمون، أن سلوك الرد في قطاع غزة جاوز الحد»، ليس إلا من باب المراوغة والتلاعب بالتصريحات لكسب الوقت وتحقيق إنجاز يمكن إسرائيل وأميركا من البناء عليه لاحقا في مفاوضات تبادل الأسرى، حيث لازمت صفة المراوغة بايدن وإدارته منذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع، ليؤكد ذلك، ويكشف كذب تباكي أميركا على الفلسطينيين، مفوض السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بقوله أول من أمس في رده على تصريحات بايدن بشأن «تجاوز إسرائيل الحد» في غزة: «حسناً، إذا كنت تعتقد أن عدداً كبيراً جداً من الناس يقتلون، ربما يجب عليك إرسال أسلحة أقل من أجل منع قتل هذا العدد الكبير من الناس، كم مرة سمعتم أبرز القادة ووزراء الخارجية في جميع أنحاء العالم يقولون إن عدداً كبيراً جداً من الناس يقتلون، أليس هذا أمراً غير منطقي»؟
جعبة الكيان الخالية من أي إنجاز، بل مليئة بالنكسات والهزائم، دفع بقادته إلى الضغط عبر الجغرافيا وعبر تحرّكات ميدانية واستعدادات عملياتية، توحي بأن عملية اجتياح رفح والمناطق المجاورة باتت قاب قوسين، في سيناريو يعيد ما فعله جيش الاحتلال في شمال القطاع ووسطه، في مدينتَي غزة وخان يونس، وذلك في محاولة لاستثمار ذلك كورقة ضغط بما ينعكس تنازلاً من المقاومة الفلسطينية في شروط التفاوض للإفراج عن الرهائن، حيث تؤكد جميع بنود اتفاق الإطار في باريس أن الرابح الأكبر المقاومة، وأن نتنياهو بتلك البنود ذاهب إلى الحساب دون أدنى شك بعد انتهاء الحرب.
من المؤكد أن نتنياهو مصرّ على الذهاب إلى عملية اجتياح لرفح، لأنه يرى فيها طوق نجاة حيث يتوهم أن «الهجوم في رفح هو مفتاح النصر»، لكن ثمة سؤال يخالف توقعات نتنياهو، ويجسد حقيقة بادية الحصول، قياساً على تجارب سابقة مماثلة شمال القطاع طوال 130 يوماً من العدوان، وهو ماذا لو أخفق العدوان، وصمدت المقاومة كما فعلت في مدينتي غزة وخان يونس؟ أي خيار سيبقى لقادة الكيان سوى الانسحاب صاغرين، وذهاب نتنياهو إلى المحكمة السياسية التي ستقر حكما بإعدامه سياسياً، ولتكن رفح حبل المشنقة الذي سيلف حول رقبته؟