صدر عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر كتاب بعنوان «الخطاب وإنتاج المعرفة»، تأليف فان دايك، ترجمة أيهم محمود العباد، يقع في 207 صفحات، ويسلط الضوء على الخطاب النقدي الذي شغل منذ مدة ليست قصيرة حيزاً مركزياً في خريطة اللسانيات المعاصرة بوصفه وريثاً شرعياً لها وامتداداً لعقود طويلة من الدرس اللغوي الحديث، وتحليل الخطاب النقدي لا يشبه أسلافه المنضوين تحت مظلة اللسانيات كعلمي الدلالة والتداولية في آلية تناول مفردات الخطاب وفحصها وتفكيكها مجهرياً، بل يختلف عنها تنظيراً وتطبيقاً ووظيفة. حيث يتكئ تحليل الخطاب النقدي على منظومة كفوءة ومتقدمة من المجسات اللغوية التي تشتغل على قراءة الخطاب في ضوء سياقاته الزمانية والمكانية، فهو يشترك مع الطب الجنائي في اقتفاء الأثر بدقة والتقاط الأدلة بمهارة ما يعني أن الحدث ركن أساس في عملية الكشف عن طبقات الخطاب وأغراضه وشفراته الخفية، وهذا ما جعل من تحليل الخطاب النقدي يهيمن على المشهد اللساني الراهن انطلاقاً من حركيته الفائقة وقدرته على تشريح الأفكار المخبوءة ضمن أية لغة كونية.
الخطاب والسلطة
وفي البداية يتحدث المؤلف عن الخطاب والسلطة والنخب الرمزية، ويبين أن دراسات الخطاب النقدي تهتم بشكل خاص بإساءة استخدام السلطة أي بالطرق غير الشرعية التي يتحكم الخطاب بها وكيف تتم إدارة العقل العام بشكل استطرادي من قبل النخب الرمزية.
ويشير إلى أنه بهذه الطريقة يتم التحكم في معتقدات المواطنين ومعارفهم ومواقفهم ضد مصالحهم الفضلى وبما يخدم مصلحة من هم في السلطة، وهذا لا ينطوي بالضرورة على تهديدات أو تلاعب صارخ وبدلاً من ذلك فإن أكثر أشكال التحكم الخطابي بالعقل تأثيراً خفية وهي غير مباشرة وبالتالي يصعب اكتشافها أو مقاومتها أو انتقادها.
ويكشف أن أحد هذه الموارد الرمزية هو الوصول إلى الخطابات العامة والتحكم فيها مثل الخطابات السياسية أو وسائل الإعلام أو التعليم أو العلوم أو الأدب أو البيروقراطية، لذلك فإن المهام الرئيسة لدراسات الخطاب النقدي أن تدرس عن كثب كيفية ممارسة النخب الرمزية لسلطتها الخطابية والتواصلية وأحياناً إساءة استخدامها.
إنتاج المعرفة
كما ينوه فان دايك في كتابه إلى العلاقة بين الخطاب والمعرفة، ويقول: «يوجد قدر هائل من البحث في الخطاب والمعرفة ومع ذلك لا توجد حتى الآن دراسة واحدة تستكشف البصيرة الواضحة للعلاقة الأساسية بين هذين المفهومين المركزيين للعلوم الإنسانية والاجتماعية، على الرغم من حقيقة أننا نكتسب معظم المعرفة عن طريق النص والكلام وذلك بالترتيب».
ويشير إلى أنه منذ الستينيات وسعت مجالات دراسات الخطاب المتقاطعة من فهمنا للنص والكلام في جميع تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية وما وراء اللسانيات بالإضافة إلى القواعد النحوية التقليدية والهيكلية والتوليدية للجمل المنعزلة، مبيناً أنه يتم تحليل الخطاب اليوم ككائن معقد متعدد الوسائط وكشكل من أشكال التفاعل الاجتماعي وكحدث تواصلي في سياقه الاجتماعي والثقافي، يتقدم في العمر من خلال الإستراتيجيات والتمثلات المعرفية الأساسية المشتركة اجتماعياً.
ويوضح أنه في جميع مستويات إنتاج الخطاب تشغل المعرفة المشتركة اجتماعياً للغة والتي تتكون من المعجم والقواعد فضلاً عن قواعد الخطاب والتفاعل والسياق دوراً مركزياً. وأنه في الوقت نفسه يحتاج مستخدمو اللغة إلى تنشيط وتطبيق معرفتهم بالعالم، أي معرفتهم العامة والمشتركة اجتماعياً حول الأشياء أو الأشخاص أو الإجراءات أو الأحداث التي تم التحدث عنها أو كتابتها.
الخطاب العنصري
ويتطرق المؤلف في كتابه إلى الخطاب العنصري ويشير إلى أنه منذ سبعينيات القرن الماضي ركزت معظم الدراسات النقدية للخطاب العنصري على الوسائل التقليدية مثل الصحف والإذاعة والتلفزيون، وأن هذه التحليلات لا تقتصر على بنى الخطاب الإعلامي العنصري بل تدرس أيضاً سياق اتصالاتها مثل الوصول إلى وسائل الإعلام وعمليات الإنتاج وجمع الأخبار وحراسة البوابة، روتين المؤسسات الإعلامية والصحفية وسياساتها وممارساتها ومعارفها ومواقفها وإيديولوجياتها.
ويبين دايك أنه من بين أهم أسباب الأخبار العنصرية وأنواع وسائل الإعلام الأخرى، التمييز الروتيني للصحفيين السود والسمر، حيث أظهرت الكثير من الأبحاث التجريبية أن غرف الأخبار في أوروبا والأميركيتين لا تزال بيضاء إلى حد كبير. حيث إن مالكي ومحرري وسائل الإعلام هم من البيض بشكل حصري تقريباً وكذلك أهدافهم وسياساتهم وسيطرتهم على إنتاج ونشر الأخبار والبرامج الأخرى.
ويوضح أنه السبب الرئيس الثاني للإعلام العنصري هو إجراءات الإنتاج الروتينية مثل جمع الأخبار، فأظهرت الأبحاث السوسيولوجية منذ السبعينيات أن الصحفيين ينخرطون في ممارسات يومية تضمن تدفقاً ثابتاً للخطاب الإخباري.