بالتزامن مع بدء المفاوضات التي انطلقت في القاهرة وبذريعة القضاء على ما تبقى من فصائل مقاومة في قطاع غزة وتدمير الأنفاق الواسعة الرابطة بين سيناء وقطاع غزة وفق ما تدعيه تل أبيب، الساعية للوصول للأسرى الإسرائيليين واستعادتهم بالقوة العسكرية، تتزايد التصريحات والتهديدات العسكرية لاجتياح منطقة رفح داخل القطاع، على الرغم من التحذيرات الإقليمية والدولية من تصعيد الأوضاع ضمن هذه الرقعة الجغرافية التي تضم أكثر من مليون وأربعمئة فلسطيني أغلبيتهم من المواطنين النازحين من شمال ووسط قطاع غزة بحثاً عن منطقة آمنة تحميهم من المجازر الإسرائيلية الممنهجة.
قضية اجتياح رفح التي باتت اليوم تمثل قضية رأي تعكس رفضاً واضحاً من الناحية المعنوية لكثير من الأنظمة السياسية لممارسة هذا العدوان، وما قد ينجم عنه من ارتكاب أكبر وأكثر المجازر المتوقعة تجاه الفلسطينيين، ولاسيما في حال استخدمت قوات الاحتلال الكثافة النارية التي قصفت بها باقي مناطق القطاع، تشير التقديرات إلى أن رفح ذات المساحة التي لا تتجاوز 64 كم2، ويقطنها حالياً أكثر من 1,4 مليون فلسطيني، حيث يشغل كل 250 ألف شخص كم2 واحد، وهو ما يرجح حصول هذه المجازر في حال حصول عدوان واسع جوي أو بري.
بناء على ما سبق، هناك ثلاثة أسئلة لابد من الإجابة عنها تفرضها التطورات التي يشهدها قطاع غزة بشكل عام ومنطقة رفح بالتحديد، وما تشهده أروقة المباحثات في القاهرة من محاولات وضغوط إقليمية ودولية لتذليل العراقيل لتقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية الرافضة لتقديم أي تنازل سياسي عجزت إسرائيل عن الحصول عليه عسكرياً، وبين الأخيرة التي يصر رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، على تبني نهج العدوان لاستمرار وجوده بالسلطة، والسؤال الأول: هل رفح مقبلة على عدوان واسع؟ والثاني: ما الفائدة من اجتماعات القاهرة؟ والثالث: ما المواقف والردود المتوقعة على هذا العدوان في حال حصوله؟
وفيما يتعلق بالسؤال الأول، نعم فإن اجتياح غزة برياً أو استهدافها جوياً هو من أكثر السيناريوهات المرجحة، إذ إن أبرز هذه السيناريوهات تدور حول اجتياح كامل وواسع من جانب أو اعتداء جزئي على رفح لتحقيق أهداف سياسية من شأنها أن تضغط على المقاومة الفلسطينية لتقديم تنازلات في مباحثات القاهرة، وضمن هذين الخيارين لا تبدو إسرائيل أنها ستوقف أي عمل عسكري تجاه رفح، وخاصة أن أحد أهداف الكيان الضمنية هو تهجير أهالي قطاع غزة الموجودين بنسبة أكثر من 85 بالمئة منهم في رفح، لذلك تتمسك إسرائيل بهذا المشروع ونجاحه مرهون بدفع هؤلاء نحو الهجرة لسيناء بفعل العمل العسكري، وفق ما تضمنته الوثيقة المسربة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية الصادرة في 13 تشرين الأول من العام الماضي، إذ احتوت المرحلة الثالثة من مشروع التهجير عبر دفع من تهجر في المرحلتين الأولى والثانية من مناطق الشمال ووسط القطاع باتجاه سيناء، بعد جمعهم في مخيمات ضمن رفح.
ولكن في المقلب الآخر فإن عوامل الضغط الداخلية والإقليمية والدولية على إسرائيل قد تدفعها نحو القيام بعمل عسكري عدواني ضمن رفح للضغط على فصائل المقاومة من خلال استخدام العامل البشري ورقة ضغط ومساومة بهدف تحقيق أهدافها المتمثلة بتراجع المقاومة عن شروطها وأهدافها ومطالبها المشروعة.
أما فيما يتعلق بالإجابة عن السؤال الثاني والمتعلق بالفائدة من مباحثات القاهرة في ظل التهديدات المتمثلة باجتياح رفح، فإن ذلك متوقف على المحاولات الغربية وخاصة الأميركية والإقليمية للضغط على المقاومة فقط دون ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل التي وافقت على إرسال وفد لحضور هذه المباحثات نتيجة الضغط والانزعاج الأميركي من السلوك الإسرائيلي الإجرامي الذي أدى لزيادة الغضب الدولي جراء الدعم الأميركي المستمر لإسرائيل واقتراب الموعد الذي حددته محكمة العدل الدولية من حكومة نتنياهو لتقديم تقريرها الخاص بتطبيق الإجراءات الوقائية وألزمتها بتقديمه خلال شهر من تاريخ صدور القرار في 26 كانون الثاني الماضي.
كما أن واشنطن تسعى لإبقاء المسار السياسي قائماً نتيجة الخشية من توسع دائرة الصراع في المنطقة واضطرارها للانجرار تدريجياً بحرب نتنياهو في المنطقة من خلال عدوانها على اليمن وعلى الحدود السورية العراقية ضد الفصائل المقاومة.
أما السؤال الثالث فقد تكون الإجابة عنه كافية لتحديد معالم الفترة المقبلة واستكمال عناصر الصورة والمشهد للتطورات المتوقعة، إذ على الرغم من اجتماع معظم الأطراف المباشرة وغير المباشرة في القاهرة وشروعها بالتداول في مباحثات تمهد وفق الترجيحات لوضع مبادئ وأسس لاتفاق استناداً للإطار العام الذي تم التوصل إليه في باريس، إلا أن اجتماع الأطراف لا يعني بالضرورة تلاقيها على أهداف واضحة ومشتركة، على العكس تماماً، حيث يمكن تفنيد دوافع هذه الأطراف بالجلوس على طاولة المباحثات وفق الآتي:
أولاً- فيما يتعلق بالكيان الإسرائيلي فإن إرسال وفد للقاهرة يمكن إرجاعه للعديد من العوامل والظروف الذاتية والموضوعية بعد إعلان هيئة البث الإسرائيلية نقلاً عن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي أوعز للجيش الإسرائيلي بإعداد الخطط اللازمة لاجتياح رفح، وهو ما يعني أن قرار الاجتياح هو قديم وليس جديداً، وهو ما يعني أيضاً أن الخيار العسكري سيبقى مستمراً وإن تم التوصل لتهدئة مؤقتة، لذلك تدور أبرز هذه العوامل في:
– تخفيف الضغط الداخلي على حكومة نتنياهو الناجم عن تصاعد تحركات أهالي الأسرى والجنود لاستعادة أبنائهم، واتباع سياسة المناورة من حيث الإحياء لهم بالسعي السياسي كما العسكري لاستعادة أبنائهم.
– المحاولات الإسرائيلية المتكررة لتحميل المقاومة مسؤولية ما ستؤول إليه الأمور من مجازر وإبادة، والسعي لتأليب الحاضنة الشعبية ضدها.
– الاستمرار في تنفيذ المخطط الإسرائيلي بتهجير أهالي القطاع بعد تدمير كل البنى التحتية ومقومات الحياة ووضع الفلسطينيين ضمن خيارين أحلاهما مر: إما الموت داخل القطاع قتلاً وإما جوعاً، أو الهجرة القسرية التي يصفها أركان اليمين بالهجرة الطوعية.
– السعي الإسرائيلي لعدم توسع الخلاف مع الإدارة الأميركية وكسب المزيد من الوقت لحين بدء الانتخابات الرئاسية الأميركية على أمل عودة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي تراهن عليه حكومة اليمين الفاشية في إسرائيل لتحقيق مشروعها في فلسطين والمنطقة.
ثانياً- الفصائل الفلسطينية الساعية لتكريس انتصارها العسكري في الجانب السياسي وتحقيق أهدافها المشروعة بضمانات دولية بهدف الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واستعادة حقوقه المسلوبة.
ثالثاً- الولايات المتحدة الأميركية وإدارة جو بايدن التي أصبحت في موقف لا تحسد عليه سواء على المستوى الداخلي نتيجة تراجع شعبيته وفقدانه تأييد الأقليات المتلفة أم على المستوى الدولي نتيجة الحرج الناجم عن تزايد الإدانات الدولية، كما أن واشنطن وعلى الرغم من كل الدعم المقدم لتل أبيب تسعى لأن تحافظ على موقع الوساطة وعدم السماح لأي منافس دولي آخر، سواء روسيا أم الصين، لمزاحمتها في منطقة الشرق الأوسط.
رابعاً- الدول الإقليمية ولاسيما مصر والأردن اللتان تخشيان من تداعيات التهجير في حال حصوله على أمنهم الوطني، من حيث زيادة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الكثافة البشرية، أو من حيث خشيتهما من صدام مباشر مع إسرائيل في حال اتخاذ المقاومة أراضيهما نقطة انطلاق لشن عمليات فدائية ضد قوات الكيان على غرار ما حصل في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في لبنان، أما قطر المسارعة لاستغلال ما تبقى من عمر زمني لإدارة الديمقراطيين في أميركا فإنها تسعى جاهدة لتوسيع نفوذها الإقليمي وفرض نفسها كقوة مؤثرة إقليمياً من البوابة الفلسطينية.
بالعموم الأيام المقبلة من المؤكد أنها ستكون حبلى بالتطورات، التي تتمثل أبرزها في احتمال التصعيد في رفح مع كل إخفاق يواجهه المفاوض الإسرائيلي، أو في حال رغبة نتنياهو بنسف المفاوضات وقلب الطاولة على الجميع بمن فيهم بايدن، للانتقام منه وإنهاء حياته السياسية كما فعل الأخير عندما توجه في 2022 لدعم حكومة لابيد- بينت لأبعاد نتنياهو عن الواجهة السياسية في إسرائيل.
كاتب سوري