جفلت عندما خاطبني الرجل باسمي عقب دخولي إلى المصعد في أحد فنادق العاصمة العراقية بغداد! نظرت إلى وجهه النحيل الطويل الذي يشبه وجه الشاعر بدر شاكر السياب، ففوجئت بشمس من المودة تشرق في عينيه، تغلبت على ترددي وصافحت يده الممدودة رغم يقيني بأنه لم يسبق لي أن رأيت الرجل في حياتي.
عندما وصلنا إلى بهو الفندق طلب أن أجلس معه لخمس دقائق لأنه يود أن يحملني رسالة إلى سورية! شعرت بالتوجس، وبدت على وجهي علائم الاستغراب، لأنني لا أحب نقل الرسائل حتى بين الأصدقاء، فكيف إذا كانت الرسالة من شخص لا أعرفه. لاحظ الرجل انقباضي فأطلق ضحكة خفيضة وقال لي بلهجة مطمئنة: «هي رسالة شفهية من لاجئ عراقي سابق إلى إخوته السوريين».
بعد لحظات من الصمت قال: «أنا أعتبر سورية وطني الثاني فعلاً، لأنني عشت فيها منذ دخول قوات الاحتلال الأميركي إلى العراق عام 2003 وحتى مطلع 2019، وأنا أرجو منك بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن مليون ونصف مليون من العراقيين الذين لجؤوا إلى سورية أن تبلغ إخوتنا السوريين عميق شكرنا وامتناننا لأنهم كانوا خلال استضافتهم لنا نعم الأهل».
صمت الرجل للحظات ثم راح ينشد هذا البيت من قصيدة « دمشق يا جبهة المجد» لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري:
«دِمَشْقُ صَبراً على البَلْوى فَكَمْ صُهِرَتْ
سَبائِكُ الذّهَبِ الغالي فما احْتَرَقا»
تهدج صوت الرجل من فرط التأثر وهو ينطق الشطر الأخير، فتأثرت بدوري.
بعد لحظات من الصمت، قال الرجل برزانة: «أنا ما أزال أتابع أخبار سورية وأواظب على تصفح مواقع صحف الشام وقد لفت انتباهي منذ مدة، تزايد الحديث في صحافتكم عن تجارة (الأمبيرات) التي وصفها عدد من الصحفيين السوريين مؤخراً بأنها باتت واقعاً مفروضاً يعمل في الخفاء، ينبغي على الحكومة التعامل معه ووضع نظم لعمله. لأن هذا التوجه، على حد علمي، مخالف للقانون السوري الذي يعتبر وزارة الكهرباء هي صاحبة الحق الحصري في توزيع الكهرباء.
قلت للرجل مجارياً له في الحديث: «التيار الذي تزودنا به المؤسسة العامة للكهرباء لا يتعدى ساعة واحدة كل خمس ساعات تقريباً، وهذا واقع صعب يرجع لأسباب عديدة يأتي على رأسها الفساد والحصار والاحتلال والعقوبات التي تعرقل وصول الوقود والقطع التبديلية الضرورية لإعادة تشغيل المحطات التي خربها الإرهاب.
صحيح أن مولدات الأمبيرات تسبب الضجيج والتلوث، وتستهلك طاقة أكثر، كما أن ضياع التيار فيها أكبر، لكن بعض المسؤولين يعتبرون أن مولدات الأمبيرات تشكل حلاً سريعاً وإسعافياً لتأمين الطاقة ريثما يتم تأمين التيار النظامي».
عند هذا الحد رفع الرجل كلتا يديه في وجهي معترضاً على كلامي، قال: «تعلم ولا شك، أن العراق واحد من أهم البلدان المنتجة للنفط في العالم، لكن لو جئت إلى بغداد في آخر الشهر لوجدت الكهرباء تشتعل وتنطفئ مثل شجرة الميلاد لتحفيز الناس على الاشتراك بالأمبيرات! على عكس الحال في بقية الأيام! لأن المستفيدين من مشكلة الكهرباء عندنا يبذلون كل ما في وسعهم لاستمرارها كي يستمر ضخ الأموال من جيوب الناس إلى جيوبهم. وهذه هي الرسالة التي أود من خلالك إيصالها لكل أخوتي في سورية.