المقدم المتقاعد من الجيش الأميركي وعالم التاريخ العسكري، ويليام آستور، والكاتب السياسي الأميركي مؤلف كتاب «نهاية ثقافة النصر: الحرب الباردة الأميركية وخيبة أمل جيل»، توم اينغيلهاردت، أعدا في 16 شباط الجاري مقالاً مشتركاً بعنوان: «أميركا تقصف المسلمين من أجل السلام»، جاء فيه أن السياسة الأميركية يمكن تعريفها باختصار بخمس كلمات: «الإنتاج الضخم يولد الدمار الشامل»، والمقصود هو أن إنتاج الأسلحة بشكل كبير وضخم يولد بالضرورة انتهاج سياسة التدمير المستمر، واتضحت تجربة استخدام هذه السياسة أثناء نهاية الحرب العالمية الثانية وبعدها حين كثفت واشنطن قصفها لتدمير المدن الألمانية واليابانية بحجة أن جميع الألمان نازيون وجميع اليابانيين فاشيون وأنهت الحرب بقصف مدينتين يابانيتين بقنبلتين نوويتين، واستمر الإنتاج المكثف للأسلحة والذخائر بشكل ضخم لتوليد التدمير في الخمسينيات في الحرب الكورية، ثم في الستينيات في حرب فيتنام، وفي حرب تدمير يوغوسلافيا في التسعينيات، ثم في حرب أفغانستان والعراق، وفي الحرب ضد روسيا في أوكرانيا في القرن الواحد والعشرين، ويؤكد الاثنان، آستور واينغيلهاردت، أن إسرائيل «تقوم الآن بتدمير منهجي لقطاع غزة ومدنه على غرار ما فعلته أميركا بنفس مبدأ استخدام الأسلحة الأميركية وإنتاجها المكثف لتوليد التدمير الشامل ضد الشعوب، بل وبنفس المنهجية تعد واشنطن وتل أبيب جميع أفراد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من أطفال ونساء إرهابيين على غرار حماس ويستحقون الموت والإبادة».
ويضيف المقال: «أميركا كما قال لنا الرئيس (الأسبق) جورج دبليو بوش، يكرهونها لأنها ديمقراطية، لكن الحقيقة هي أنهم يكرهونها لأنها تقصف وتحتل وتبني قواعد عسكرية وتفرض على العالم سياساتها».
ولذلك دافعت واشنطن عن كل ما ارتكبته إسرائيل من قصف وعمليات عسكرية وحشية في قطاع صغير تسببت نتائجه باستشهاد وجرح مئة ألف من مليونين من المدنيين العزل المحاصرين منذ 16 سنة داخل 350 كم2.
وبعد خمسة أشهر على هذه الحرب الوحشية على القطاع تستطيع واشنطن بقرار فوري وخلال ساعات إجبار إسرائيل على إيقاف النار ومنع استمرار الإبادة، ولكنها ترى نفسها ودورها ومصالحها في كل ما تقوم به إسرائيل أهم مستهلك لأسلحتها وذخائرها بعد جيش أوكرانيا الموجه ضد روسيا في هذه الأوقات، ويتبين بشكل واضح أن معظم دول العالم الغربي الحليفة لواشنطن بدأت تطالب بإيقاف النار والعمليات العسكرية الإسرائيلية، وتوقفت عن التأييد العلني لاستمرار الحرب الإسرائيلية باستثناء الولايات المتحدة التي لا تزال تراهن على استمرار القصف الإسرائيلي وقتل المدنيين من أطفال ونساء، على الرغم من أن مطلب إيقاف النار أيدته أغلبية أميركية من الجمهور الأميركي ومن الأمم المتحدة وكل شعوب العالم.
وفي ساحة اليهود الأميركيين وقع أكثر من 300 ألف من اليهود الأميركيين حتى الآن على مذكرة يطالبون فيها الرئيس جو بايدين بمنع توريد الأسلحة لإسرائيل وفرض إيقاف النار باسم منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام»، وكان 500 من الشخصيات اليهودية الأميركية الأعضاء في المنظمات اليهودية الأميركية قد أرسلوا في 8 كانون الأول الماضي مذكرة لبايدين يطلبون فيها أن يوقف فورا الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وفي التوقيت نفسه كان 700 حاخام من المذهب الإصلاحي والمذهب المحافظ لليهود الأميركيين قد وقعوا على مذكرة يطالبون فيها بايدين بفرض إيقاف النار على إسرائيل، ومع ذلك تتصدر واشنطن وتل أبيب وحدهما تقريباً دور المتمسك باستمرار العدوان العسكري المستمر طوال أربعة أشهر ونيف، بل بأكثر أشكال الحصار وحشية في التاريخ البشري على مليونين و300 ألف من المدنيين، ولا شك أن الدور المباشر للولايات المتحدة في قيادة هذه الحرب العلنية وعلى أعلى المستويات ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ بدايتها وحتى هذه اللحظة يجعل إسرائيل لا تحسب أي حساب لمحاكمتها بارتكاب جرائم حرب أو إبادة شعب طالما أن واشنطن لا توقف هذه الحرب وتعمل على منع تقديم إسرائيل إلى المحاكم الجنائية الدولية، بل هي تعلن عن قرارات بمعاقبة كل من يقف إلى جانب مقاومة الشعب الفلسطيني أو يشارك بدعمه، والسؤال الذي تفرضه هذه الغطرسة الأميركية ونظامها العالمي الوحشي: أما آن لهذا العالم بعد أكثر من قرن من هذه السيطرة أن ينعم بنظام عالمي جديد لمصلحة كل شعوبه؟ وهل تصبح استعادة حقوق شعب فلسطين أقدم وأعدل قضية في التاريخ المعاصر بوابة لهذا النظام الجديد؟