قضايا وآراء

لبنان بين المبادرة الفرنسية والشروط الإسرائيلية واحتمالات التصعيد جنوباً

| فراس عزيز ديب

بين ارتقاء الشهداء في فلسطين أم لبنان وسورية لا فرق، العدو واحد وآلة الإجرام السياسي التي تدعم آلة الإجرام العسكرية واحدة، لكن مع ذلك فقد ترك الاعتداء الإسرائيلي على مبنى في النبطية قضاء جبل عامل، في لبنان والذي أدى لارتقاءِ شهداء بينهم أطفال ومدنيون، الباب مشرَّعاً على الكثيرِ من التساؤلات بعد اتساع رقعة الاستهداف جغرافياً أهمها: هل بدأت كرة الثلج على الجبهة اللبنانية مع فلسطين المحتلة تتدحرج بطريقةٍ أقرب للخروج عن السيطرة؟

للإجابةِ عن هذا السؤال لابد من تحليل المعطيات التالية:

أولاً: في المعطيات العسكرية، فمما لا شك فيهِ بأن قادةَ العدو كانوا ولا يزالون يصنفون خطوط المواجهة بثلاثة مستويات، المستوى الثالث وهي الحلقة الأضعف والمتمثل بقطاعِ غزة، عندما نقول الحلقة الأضعف هذا الكلام لا يعني التقليل من تضحيات أبناء فلسطين لكننا نتحدث بالقدرة على تجديد الإمكانات العسكرية لمواجهة هذا العدو وخلق الظروف المناسبة لصمود خيار المقاومة، والتي تبدو صعبة جداً نظراً لظروف الحصار التي يفرضها الجميع من دون استثناء على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فعلى هذهِ الجبهة يرى العدو بأن المهمة الإجرامية قد أنجزت لتحجيم هذا المستوى سواء حدثت معركة رفح أم لا، والتي لا أزال أراها قريبة، فإن الكيان حقق مبتغاه على جميع الصعد بعيداً عن لغة العواطف، أهمها تدمير القطاع بالكامل لدرجة بدأ فيها اليوم الجميع حديثهم عن مستقبل القطاع من دون مقاومة، وربما من دون شعب فلسطيني، أو ربط إعادة الإعمار بتصفية نهائية لفكرة المقاومة وهو حديث خرجَ للعلن بعدَ أن كان حديث الوفود الدبلوماسية.

المستوى الأول من حيث أهمية الجبهات هي الجبهة السورية مع فلسطين المحتلة، هذه الجبهة تحتل هذا المكان لاعتبارات كثيرة أهمها أنها خط النار الوحيد للكيان الصهيوني المتبقي مع دولة مواجهة، وليس مقاومة قررت خيار المواجهة، فبعد خروج كل من مصر والأردن من الصراع بقيت سورية الدولة الوحيدة التي تتبنى هذا الخيار، وعلى هذا الأساس تبقى خيارات المواجهة بين الدول، إن اعتبرنا الكيان دولة، له أبعاد ومحددات ومحاذير أكثر تعقيداً حتى في حسابات مراكز القوة، ولأن مواجهة كهذه تبدو اليوم بعيدة نوعاً ما حتى الآن على الأقل، فإن المستوى الثاني في أهمية الجبهات هو من يتصدر المشهد اليوم أي الجبهة اللبنانية مع فلسطين المحتلة.

تكتسب هذه الجبهة أهميتها من خلال الكثير من المزايا التي شكلت هالة المقاومة اللبنانية، كالتنظيم، مروراً بالبيئة الحاضنة المشبعة بروح الثأر لما ارتكبه الكيان وعملاؤه من جرائم بحق أبناء لبنان، وصولاً إلى قدرة المقاومة على تجديد قدراتها العسكرية والتي لو بدأنا بتعدادها لما كفانا صفحات العدد بالكامل، هذا الكلام يدركه الإسرائيلي قبل غيره وتحدثَ عنه الإعلام الصهيوني بوضوح لدرجةٍ أن الـ«جيروزاليم بوست» قالت: إن «هناك الكثير من الأخطاء أدت لتعاظم قدرات حزب اللـه حتى وصلنا إلى نقطة اللاعودة، أهمها الفشل الاستخباراتي وعدم التمكن من إسقاط النظام السوري».

بالسياق ذاته يدرك الإسرائيلي أن انزلاق الجبهة نحو المواجهة ستعني سقوط الكثير من المحاذير التي كان يختفي خلفها، فمثلاً ومنذ السابع من تشرين الأول اعتاد الكيان توجيهَ رسائل غير مباشرة لقادة المقاومة اللبنانية بأن أي دخول في المعركة سيعني ردوداً تدمر لبنان باستنساخ لما جرى في غزة، كان الهدف من تلكَ الرسائل المفخخة إحراج المقاومة واتهامها بالتسبب بتدمير لبنان، لكن مع ما يجري اليوم وتحديداً مع توالي الإصابات بين المدنيين والأطفال فإن المقاومة بدأت تتحرر من مسؤولية كهذه لأنها أولاً وأخيراً تدرك بأن «أعداء الداخل» سيحملونها المسؤولية أياً كان مسار الأحداث، بالسياق ذاته فإن على العدو أن يدرك بأن قيام المقاومة الفلسطينية بما قامت بهِ في السابع من تشرين الأول من دون التنسيق مع باقي قوى المقاومة أو الدول الداعمة لها لا ينطبق ولن ينطبق إطلاقاً على المقاومة اللبنانية، ما يعني أن أي ردود يتلقاها أو سيتلقاها هي ردود بقرارٍ واحد لن تنفع معه فكرة الاستفراد بتلك الجبهة، مهما حاول العدو تدريجياً رفع سقف الاستهداف بما فيها إمكانية الوصول إلى قادة الصف الأول للمقاومة، ما يعني أن الكيان أمام خيار فتح الجبهة وتحمل العواقب أو محاولة تكبيل المقاومة سياسياً ما يعني تكبيلها عسكرياً.

ثانياً: في المعطى السياسي، هنا علينا العودة إلى تشرين الثاني الماضي عندما زار الموفد الرئاسي الفرنسي إيف جان لودريان لبنان، كان العنوان العريض للزيارة يومها هو السعي لاستكمال المبادرة الفرنسية التي تهدف لكسر الجمود السياسي اللبناني على المستوى الداخلي من بينها تشكيل حكومة مستقلين تقوم بالإشراف على انتخابات برلمانية تفضي لانتخاب رئيس للجمهورية، يومها قلنا هنا على صفحات «الوطن» إن هذا العنوان ليسَ دقيقاً لأن الجانب الفرنسي قبل غيره، يعرف بأن مبادرته أكل عليها الدهر وشرب، بل إن ما حمله المبعوث الفرنسي ليسَ أكثر من رسالة تهديد للدولة اللبنانية في حال قررت المقاومة اللبنانية تشديدَ هجماتها على شمال فلسطين المحتلة انتصاراً للمظلومين في غزة، رويداً رويداً بدأت تتضح المساعي الفرنسية عندما زارت وزيرة الخارجية السابقة كاترين كولونا بيروت نهاية العام الماضي وتحدثت فيها صراحةً عن السعي لتجنيب لبنان الحرب، الوزيرة المعروفة بمواقفها المعتدلة والتي دفعت منصبها ثمناً لذلك عندما قالت: إن إسرائيل لا يحق لها التلويح بتفريغ قطاع غزة من سكانه لكون القطاع أرض فلسطينية، وكذلك تأكيدها بأن وقف العنف يجب أن يشمل كل الأطراف بما فيها إسرائيل، كانت قد حملت مبادرة مستنسخة من القرار 1701 والتي تهدف إلى تحقيق هدنة على طرفي الحدود مع سحب مقاتلي حزب اللـه بعمق 10 كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية والشروع بمفاوضات حول القرى المتنازع عليها، اليوم تبدو هذه المبادرة وكأنها تحولت إلى شروط يضعها الكيان الصهيوني لمنع انزلاق المواجهة على الجبهة الشمالية نقلتها الخارجية الفرنسية إلى نظيرتها اللبنانية، لكن هذه المبادرة تبدو خالية من البند الأهم، وبمعنى آخر: إذا كانت المبادرة الفرنسية جدية فما هي الضمانات التي يمتلكها الجانب الفرنسي لتحقيق انسحاب الكيان الصهيوني من مزارع شبعا؟ ببساطة لا توجد ضمانات، حتى التصريحات الإسرائيلية ليست بهذا الوارد إطلاقاً، والتي تتحدث عن الفرصة المتاحة لـ«تأديب حزب الله»، لأن من يسعى كمن يدعي لنزع فتيل الحرب لا يستخدم لغة التهديد، المشكلة أن الإعلام الصهيوني وحتى المتصهين، لم يكتف فقط بالاستثمار بهذهِ المبادرة كطريق للخلاص، لكنه استثمر حتى بعودة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري إلى بيروت من مبدأ أن عودته هي انطلاق لمرحلة جديدة مع العلم أن الحريري نفسه يعلم بأن لا دور سياسياً له في المدى القريب، فماذا ينتظرنا؟

مما تقدم يمكننا القول: إن كلاً من الأفق السياسي والعسكري لا يظهران بمظهر الداعم لخيارات الكيان إلا إذا كان الكيان مصاب بداء فرط القوة، هذا الداء يجعل خيارات المريض تبدو أكثر اتساعاً لكنها بالنهاية ليست إلا الطريق نحو الانتحار، يُحسب لقادة المقاومة في لبنان بأنهم إن وعدوا وفوا، كلام الأمين العام لحزب اللـه حسن نصر اللـه قبل الأمس كان واضحاً، لن يكون هناك تراجع عن الثأر لدماء المدنيين والأبرياء لكن الكيان فيما يبدو مازال لم يفهم جيداً الرسالة.

كاتب سوري مقيم في فرنسا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن