ثرثرات نجيب محفوظ شرّحت الواقع بألم ووعي! … عالم يحوي جميع الشرائح يمارس الهروب والضياع بعد انتكاسات في الصميم
| إسماعيل مروة
يا لنجيب محفوظ عندما يرسم خطوط الحياة في رواياته بل في روايته، إن كانت من عمق التاريخ المصري الفرعوني، أو مما قبله في تناول بدء التكوين، وصولاً إلى القضايا المعاصرة التي حوّلوها إلى نموذج، قلّدوه في الفتوّات والعكيد وما شابه، إلى دخوله في ثنايا الحارة الشعبية، واستعراضه لخان الخليلي وقهوة الفيشاوي وسيدنا الحسين، وفي كل ذلك كان نجيب محفوظ مبدعاً وحراً وسيداً، وإن كانت الميول السياسية قد حاولت ليّ عنق رواياته لتلبسه ما لم يتبرأ منه، وهو غير بريء، ولكن لتحاول إلباسه ثوب المحاكمة السياسية لرأيه واعتقاده، وصولاً إلى محاولة اغتياله التي عجزت عنه، ولكنها تركت ثَلماً في الثقافة العربية المعاصرة لا يمحى!
الإشكالية ومصدرها
نجيب محفوظ دارس لعلم النفس، وباحث في المجتمع بكل تفصيلاته، وحر في رأيه وتفكيره، وعاش التقلبات السياسية الكبرى في حياة مصر والعرب، وقارئ متخصص في التاريخين القريب والبعيد، وهو موظف عادي في مواقع عدة، تقلب في شتى المواقع، ولم يتأنف عن أي عمل أو مهمة، سواء كان النص الأصلي له أم لسواه، وفي الكتاب التوثيقي الذي أعد عن نجيب محفوظ والسينما، والذي زاد على1200 صفحة رصد لمسيرة المبدع الكبير حتى كان نجيب محفوظ القامة.. هذه المسيرة جعلته يقف مع الوجود وبدايته، ومع مرحلة الفراعنة وتسجيلها في أعمال خالدة، ومن ثم الوصول إلى الحارة الشعبية وتشريح بنيتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية.. وإن كان غيره من الروائيين قد وقف عند البيئة، فقد وقف مع الفولكلور، لكن نجيب محفوظ كان دارساً في أعماق المجتمع والنفس في (قصر الشوق) و(السكرية) و(خان الخليلي) وسواها.. بالدرجة نفسها التي كان فيها جريئاً في روايته الإشكالية (أولاد حارتنا) والتي قدم فيها رواية من النوع المختلف، لكن القراءات أصابت ساعة وشطحت في ساعات، إذ تم تصوير نجيب محفوظ بالملحد الكافر لأنه قدم هذه الرواية، أرادوا لها أن تكون كذلك، قد تكون، وقد لا تكون!
لكن (الجبلاوي) في الرواية نموذج مهم للهيمنة والتحكم والإدارة، وربما السلطة وأشياء كثيرة، يمكن أن تستثمر إيجابياً أو سلبياً، فالإشكالية من (رادوبيس) إلى (أولاد حارتنا) هي إشكالية المعنى العميق الفلسفي القابل للتأويل.
الحفر عميقاً لا الملامسة
مع (الكرنك) و(ثرثرة فوق النيل) ازداد الشرخ بين نجيب محفوظ والنخبة السياسية، ومن يتبعها في السلطة الثقافية القادرة على التهليل، لتأتي (أولاد حارتنا) قاصمة، إذ استطاعت النخب التي اختارتها السلطة السياسية أن تتسلل إلى الوجدان الشعبي الإيماني، ليصبح الروائي الكبير، والحكواتي المتفرد خارجاً على الدين!! فاستطاع هؤلاء أن يحيّدوا ببراعة ونفاق ما كان لنجيب من موقف مما يجري سياسياً، وهذا قد يجلب له نوعاً من التعاطف الشعبي، ليضعوا الكاتب في ميزان العدالة الإلهية، وهذا الأمر ينطبق على كل المبدعين الكبار الذين عوقبوا للزندقة والكفر، وهم في حقيقة الأمر لبسوا هذا الثوب عقوبة لهم عن مواقفهم الفكرية والسياسية، من ابن المقفع، إلى بشار بن برد، إلى الحلاج، إلى السهروردي وغيرهم كثير، فقد تعودت السلطة السياسية أن تستعين بالسلطة الدينية في مراحل محددة، وجميعنا يذكر (غاليلي) وغيره من الذين عملت الكنيسة، أي السلطة الدينية على محاسبتهم نيابة عن السياسة..!
نعود إلى نجيب محفوظ الذي طرح أسئلة وجودية، ودخل في المحظور السياسي، ولنا أن نتخيل أن مسؤولاً عادياً لا وزن له، يمكن أن يستعدي ويتهم، ويقصي، ويبعد، فما بالنا بالسلطة السياسية المركبة؟!
الطروحات والعقوبات
في رواياته، وفي المفاصل المؤثرة في حياتنا الحديثة كتب نجيب محفوظ وانتقد، فكانت الكرنك وميرمار وثرثرة فوق النيل وغيرها من الروايات، بما فيها تناوله للفتوّات والهيمنة والقوة في مراكز القوة المفترضة، والتي تمثل ساعداً حقيقياً للسلطات السياسية، وتم تجاهل هذه الأعمال، ومن ثم عندما أنتجت فنياً تم منعها، وربما عوقب أصحابها، وأزعم أن السلطات الثقافية التي تتمتع بالجهل والحقد، وتحرص على استمراريتها هي من قام بهذه الأفعال، وليست السلطة السياسية في أعلى مستوى، فعندما عوقب فيلم محمود مرسي وشادية (زواج عتريس من فؤادة باطل) قامت الدنيا ولم تقعد، وحين وصل إلى القمة السياسية أجيز وتحوّل إلى أهم كلاسيكيات السينما العربية والمصرية، وما كانت القراءة الخطيرة إلا من متولي الشؤون الفنية والثقافية!
وجميعنا يذكر ما أثبته نزار قباني من منعه من مصر ومنع أشعاره بعد (هوامش على دفتر النكسة) وما فعله من مراسلة للرئيس عبد الناصر، ومن ثم تحوّل الموقف إلى الضدّ مباشرة، فصار بعد المنع معززاً مكرماً!
فقد تطوع أزلام الثقافة بتأويل القضايا، وظنوا أنهم يقدمون خدمات للسلطة السياسية، وفي هذه القضايا التي وصلت إلى أعلى الهرم تمت المعالجة، ولكن رعايا الثقافة والفن لم ينلهم أي شيء، وكأنهم رأوا الاستمرار في منع وصول أي فكرة إلى غايتها وهدفها! الموقف السياسي لنجيب محفوظ أو لغيره هو ملك شخصي له، ويناقش من زوايا علمية، وليس من زاوية الإيجاب والسلب، والقضايا المسبغة، والذي يعني في إنتاجه أمرين:
1- الجانب الفني الحكائي الروائي، وفي هذا الجانب لا ينكر واحد أنه سيد الرواية والحكاية، وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال، فإنه، الأكثر ترجمة وقراءة ووصولاً إلى العالم، ولم يكن يعاني العرج عندما وصل إلى نوبل في نهاية السباق.
2- الغائية والفكرة، فهل كان الروائي يريد بناء مجتمعه أو يريد هدمه؟ هل كان ينتقد منظومة الفساد أو كان يهدم الهوية الوطنية؟ هل عمل على هدم الرمزية أو انتقد منظومة تحتاج إلى النقد؟ وفي الأعمال المشار إليها جميعها كان نجيب محفوظ المنتمي لفنه وهذا ما قاله الناقد غالي شكري في دراسته (المنتمي).
ثرثرة فوق النيل مثالاً
هذه الرواية لم تنل حقها من النقد والذيوع، فقد جوبهت بالرفض والمنع، وصفق ضدها مثقفو السلطة، وكأن صاحبها خرق الشرائع كلها، وحين تصدى لها ممدوح الليثي وحسين كمال أنتجت فيلماً عظيماً، ولكن ناله ما نال الرواية، وهذه الرواية كما يرى عدد من كبار النقاد تمثل توثيقاً أدبياً، فعدد من النظريات النقدية ترى أن الأدب والنص الأدبي هو المؤرخ الحقيقي وليست كتب التاريخ والموسوعات والدوريات التي تصدرها السلطات ودوائرها..
عالم الثرثرة: تتنوع شخصيات الثرثرة وهي ليست شخصيات مسحوقة، بل تمثل شرائح المجتمع:
– الصحفي والكاتب والممثل ورئيس التحرير.
– الزوجة لرجل موسر، والطامحة للوصول بأقصى سرعة.
– عدد من المتنفذين.
– عدد من الذين يملكون رؤية وأحبطوا.
– القاسم المشترك بين هؤلاء الطموح والهروب والاستغلال.
– المكان الذي يحتوي هؤلاء جميعاً هو عائم فوق النيل.
– الحارس للمكان بسيط مؤمن مصلٍ، يحرس كل هذا الكم من الدعارة الأخلاقية والفكرية.
– الدواء الوحيد لكل هؤلاء هروباً أو لهواً هو الحشيشة.
– كل واحد يحمل مسوّغ انغماسه وهروبه بنفسه، وبأنه ردة فعل على فعل كان.
كل الأحداث الفرعية قد لا تقدم سوى شروح، وهي مهمة، لكن الذي يعنينا هو أن الرواية كانت صرخة في وجه النكسة، وصرخات في مواجهة الفساد، وصراخ في وجه البيروقراطية، وبكاء من الاشتراكيين الذين غدوا رأسماليين.
نجيب محفوظ وكل المبدعين أمام النكسات والمفاصل المحورية في حياة الشعوب يقفون موقفاً صادماً لطبقة نفعية لا تقبل نقاشاً، ولا تقبل تغييراً، وهذه المواقف الصادمة، ولو على صعيد فردي كما هو حال صلاح جاهين أو سليمان العيسى أو عبد الرحمن الأبنودي، أو كانت في صرخة جمعية كما كان من أمر نجيب محفوظ، فإنها تجد من يؤولها، ويرفعها من مستوى النقد الإصلاحي في غايته الأولى بالإشارة إلى مواطن الفساد، يرفعها ليجعلها تمرداً ورفضاً وانقلاباً، والحامل في كل ذلك هي الطبقة السياسية والثقافية التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه..
وعن مذهبه الفني والكتابي يقول نجيب محفوظ في مرحلة (ثرثرة فوق النيل)، و(ميرامار):
«لم تعد البيئة هنا ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها، الشخصية صارت أقرب إلى الرمز أو النموذج، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية.. على أن هناك صعوبة يواجهها الكاتب إذ ينبغي أن تأتي الأحداث والأشخاص، والجو العام للعمل الفني على صورة طبيعية بعيدة عن افتعال الصنعة والتدبير المسبق، وهو ما يبعد هذا المنهج في التعبير عن الأدب الفكري، وفي محاولاتي الأخيرة تنبع أفكاري من الواقع لأنه هو الذي يوحي بها».
ويرى غالي شكري أن هذا التطور اقتضى جهداً من محفوظ.. «احتاج من الفنان أن يغير كثيراً من أدواته التعبيرية، فبدلاً من توزيع الأزمة على عدد كبير من الشخصيات، يركز الكاتب في أعماله الجديدة على هذه الأزمة بعينها، وفي مرحلة تجعلها أكثر احتداماً، على شخصية واحدة هي البطل الفرد الذي ينطوي تكوينه التراجيدي على قضية فكرية».
فالهزيمة الحقيقية الواقعية والروحية لن تسمح للفنان بتوزيع الحدث والأزمنة، بل كانت الفكرة هي الأساس، هي الحدث والمحرك والمتنامي، لذا تتناول هذه الأعمال و(ثرثرة فوق النيل) تحديداً الخيبة الفردية الصادمة، وتحولت القضايا على حد تعبير نجيب محفوظ إلى رموز، وتحوّل الموظف العادي من ناقد إلى ناقم إلى متخلٍ هارب، إلى صارخ بصوت عال، وما بين الرمزين تأتي عناصر العمل والبيئة، وتتشكل مساحات من الناس تشكل الحامل الفكري الفردي الناقم على منظومة الفساد، سواء كانت داخل السلطة أم من مفرزاتها أو من نتائجها.
الأدب والتاريخ
قد ينساق واحدنا بالعاطفة، فيتهم هذا بانقلاب أو إساءة، وقد يكون هذا الأمر مدفوعاً من انحياز غير سليم يمارسه هذا وذاك، ولكن اليوم وبعد ستة عقود ألا نجد أن التاريخ الذي وثقه رواية محدودة المكان والزمان والشخصيات البارع نجيب محفوظ في انتقاد البيروقراطية، وفي انتقاد الاشتراكيين الذين صاروا سادة البورجوازية ويطلبون من الناس المحافظة على الاشتراكية، ألا نرى ما طرحه رأي العين؟ ألم نحصد نتائجه؟
فهل يعاد الاعتبار لكل هؤلاء الذين نعتناهم بالانهزاميين والسلبيين؟
وتستمر الثرثرات فوق النيل وفوق الرمل وفوق أشلاء الأمنيات والأحلام!
نحن بحاجة إلى إعادة قراءة الأدب الناقد الذي يؤرخ للمراحل المفصلية، ولكن بعين الأوطان، وليس بأعين الرقباء والمصلحيين الذين يفصلون الأوطان والقضايا على مقاساتهم.
وتبقى صرخات الموظف البسيط في (ثرثرة فوق النيل) صوت المواطن الذي لم يستطع الحشيش أن يجعله بين المساطيل، وصوت الصحفية الجادة التي تميزت عن رئيس تحريرها، وانحازت للشارع والإنسان البسيط وهمومه.