معركة طوفان الأقصى بكل ما حملته من نتائج غير مسبوقة على مستوى بطولات المقاومة وعظمة صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس رغم حرب الإبادة اليومية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أبدا أن تُمحى من ذاكرة الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة والعالم كله، لأنها أول مذابح لإبادة شعب تجري في التاريخ في كل أحداثها ووحشيتها وفي كل ساعة أمام جميع أفراد البشرية وطوال كل هذه الأشهر الخمسة وما سوف يزيد عنها من زمن، وها نحن نشهد كيف بدأت الإدانات الموجهة من كل أنحاء العالم والرأي العام بمختلف منظماته ومؤسساته ضد من يرتكبها وضد من يدعمه تتسع وتتجه نحو تشكيل منظمات مدنية واتحادات شعبية وطنية وعالمية في دول كثيرة وأهمها في الولايات المتحدة، للمطالبة بإيقاف العمليات العسكرية الإسرائيلية فوراً في قطاع غزة بل أيضاً تضع برامج علنية للضغط على كل حكومة لا تعمل على تحقيق هذا المطلب القانوني والشرعي العادل.
ومع هذا المد العالمي الداعم للشعب الفلسطيني يصبح المطلوب الآن أن يستمر وجود هذه المؤسسات والاتحادات التي تبنت التنديد بالمذابح المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في ساحة العمل العالمية حتى لو جرى أي اتفاق لإيقاف النار الدائم أو المرحلي، فالاستعمار الاستيطاني الذي أنشأته بريطانيا عام 1948 لم يقتصر على فلسطين في ذلك العام بل أنشأت على غراره في مناطق في جنوب إفريقيا قسمتها إلى أربعة كيانات أهمها «كيان جنوب إفريقيا» في العام ذاته، وحين ارتكبت حكومة البيض الاستيطانية في آذار عام 1960 مذبحة في مدينة شاربفيل قامت حركة التحرر الإفريقية هناك بتصعيد كفاحها ضد جيش المستوطنين البيض وتمكنت بدعم دول ومنظمات مستقلة مدنية كثيرة مناهضة للاستعمار من الحصول على قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1963 يطالب بتصفية كل أشكال التمييز العنصري من جنوب إفريقيا، ومنذ تلك الفترة بدأ يزداد تأسيس الجمعيات والمنظمات المناهضة للاستعمار الاستيطاني والتمييز العنصري وتحولت إلى أدوات ضغط على الحكومات المتواطئة مع حكومة البيض الاستعماريين في جنوب إفريقيا، وإذا كانت المذابح التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية المسلحة عام 1948 بدعم بريطاني في فلسطين ما زالت مسجلة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، فإن المذابح التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي في فلسطين خلال الأشهر الخمسة من اجتياح جيشه الأراضي الفلسطينية منذ السابع من تشرين أول الماضي تعد من أكبر وأفظع ما ارتكبته شكلاً ومضموناً معظم الجيوش الاستعمارية في القرن الماضي، فكل طفل قتله جيش الاحتلال أصبح بحد ذاته قصة مذبحة موصوفة موثقة بالصورة والحدث، وهذا ما يجعل مئة ألف من الشهداء والجرحى الذين استهدفهم جيش الاحتلال بالقتل والتدمير طوال الأشهر الخمسة، مئة ألف قصة عن مذابح شهدها العالم كله على شاشات وسائل الاتصالات الذكية المباشرة الحديثة وتلفزيوناتها.
لذلك ربما نحتاج للمئات بل لآلاف المنظمات والجمعيات المدنية المستقلة من أجل تحويل سجل هذه المذابح وضحاياها إلى تاريخ إدانة غير مسبوقة لما ارتكبته قوى الاستعمار وحركتها الصهيونية ضد شعب لم تتوقف المذابح عن استهدافه طوال قرن من الزمان، وإذا لم يظهر بعد في منطقتنا العربية والإسلامية سوى عدد قليل من المنظمات المستقلة المدنية للمساهمة بهذه المهمة التاريخية، فقد قامت في داخل الولايات المتحدة أكثر من 200 من المنظمات الاتحادية والمحلية ذات الاختصاصات النقابية العمالية المتنوعة في المهن والنشاطات بأكبر حملة تطالب إسرائيل فيها بإيقاف النار في القطاع وقامت النقابات المحلية من هذه المنظمات بإعلان اتحادها في إطار موحد جديد أنشأته باسم «شبكة العمال القومية الأميركية من أجل وقف النار وإنهاء القتل والتدمير» بهدف تنظيم النشاطات الداعمة للشعب الفلسطيني، وأطلق اتحاد عمال صناعة السيارات «يو إي دبليو» على الرئيس الأميركي، جو بايدين، لقب «جو إبادة شعب»، ووضعت شبكة العمال القومية برنامجاً للضغط على إدارة بايدين وفرض مطالبته للحكومة الإسرائيلية بإيقاف النار فوراً.
الحركة الصهيونية وكذلك منظمة «المؤتمر اليهودي العالمي» تمكنتا من إنشاء 10549 من المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وحدها بموجب الموقع الأميركي «كوز إي كيو- causeiq. com» المختص بإحصاءات المنظمات المدنية وغير الربحية الأميركية، وعدد الموظفين في هذه المنظمات بلغ 31654 وتحقق أرباحاً بقيمة 8 مليارات دولار في كل سنة وتملك مخزوناً مالياً بما قيمته 17 مليار دولار، فما بالك بعدد هذه المنظمات في دول أخرى في العالم وكلها تتبنى سياسات إسرائيل وتدافع عنها، في حين لا نعرف بعد عن عدد المنظمات العربية والإسلامية المماثلة لها في العالم.