كثرت المقالات والتحليلات السياسية التي تحاول التذاكي بالكتابة عن غياب دور سورية في العدوان الإجرامي على أهلنا في قطاع غزة، ويعمد هؤلاء الكتاب الجالسون على الأريكة في تقديم تصوراتهم الخاصة عن هذا الأمر، التي أشتم من خلالها محاولات بائسة لتصوير سورية وكأنها خارج هذه المعادلة، وأصبحت في وادٍ آخر، وفي هذا تحليل سخيف لحقيقة الموقف السوري الذي يجب تفهمه كما هو دون العنتريات والمزايدات، لدى هذا الطرف أو ذاك.
«القناة 12» الصهيونية قالت تعقيباً على العدوان الصهيوني على منطقة كفرسوسة البارحة ما يلي: «الخطر الموجود في سورية، وفي دمشق تحديداً على دولتنا، أكبر من الخطر الموجود في جنوب لبنان، في دمشق يتم التخطيط لعمليات نقل الأسلحة، وهناك الكثير من القيادات الإيرانية والفلسطينية، وفي الأشهر الأخيرة عادت حماس إلى دمشق»، هذا هو تقييم العدو الصهيوني لحقيقة موقف دمشق التي لا تتحدث، ولا تكثر من البيانات الصاخبة، وتعمل مع حلفائها بصمت وهدوء، لأن الحرب القائمة حالياً على غزة ستلحق بالجميع إن هزمت المقاومة، ولن يرحم الكيان أطفالنا ونساءنا وبيوتنا ومنشآتنا ومشافينا، وسيفعل بنا ما يفعله بالأهل في غزة.
دمشق تقدم ما تستطيع بهدوء، وعندما دافع الرئيس بشار الأسد عام 2003 عن حركات المقاومة الفلسطينية في اجتماعه الشهير مع وزير الخارجية الأميركية الأسبق كولن باول، ورفض المطالب الأميركية آنذاك، لم يكن أحد يتجرأ في المنطقة على إعلاء الصوت، أو الوقوف ضد واشنطن، وما تزال دمشق تدفع الثمن لموقفها الداعم لحركات المقاومة في المنطقة من خلال حُزم العقوبات والحصار، التي بدأت أميركا والغرب الجماعي في تطبيقها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، ولكن بفجور كبير بدءاً من عام 2004 عبر «قانون محاسبة سورية»، ثم لاحقاً بسلسلة من الإجراءات الهادفة لكسر إرادة السوريين وصولاً لـ«قانون قيصر»، والآن «قانون مناهضة التطبيع» الذي يشبه إلى حد كبير أحكام قراقوش، ففيه من الهيستيريا والسفاهة ما لا يتخيله عقل، ما يطرح السؤال على أولئك المتذاكين، أو المصطادين في الماء العكر حول حقيقة الموقف السوري من دعم حركات المقاومة، وهو: لماذا هذا الجنون الأميركي تجاه سورية إذا كانت دمشق بعيدة أو غائبة عن غزة كما تساءل البعض؟
لكن الطرح الموضوعي يتطلب منا أيضاً أن نقول ما في قلوبنا من جراحات عميقة، وآلام شديدة، ذلك أن سورية ليست في كامل عافيتها وقوتها، والمخاطر ما تزال تتهددها من كل حدب وصوب، وجيشها البطل موزع في ساحات القتال ضد أدوات إسرائيل وأميركا و«ناتو» في شمال غرب سورية، حيث هناك فقط للعلم 15 ألف إرهابي متعددو الجنسيات، إضافة لإرهابيين سوريين يرفعون العلم التركي في أكثر من بقعة، ويمتلكون بدعم من أجهزة المخابرات الأميركية الطائرات المسيرة، ومختلف أنواع الأسلحة، ويشكلون تهديداً للمدنيين السوريين، والمدن السورية في الساحل والوسط، أي إن هناك في هذه البقعة ما لا يقل عن 50 ألف إرهابي ملتح. ومدعي تدين، لكنهم لا يقاتلون العدو الصهيوني، ولم ينبسوا ببنت شفة تجاه الإبادة الجماعية في غزة، ولم يصدروا فتاوى الجهاد من أجل فلسطين، بل ينظرون لنا نحن الذين ندفع من لقمة عيشنا واستقرارنا وأمننا واقتصادنا، من أجل مقاومة مشروع الإبادة الجماعية على أننا هدف مشروع للقتل والإبادة، وهم بهذا ليسوا إلا جيشاً صهيونياً لكن بواجهات إسلاموية قذرة، إذ الجيش العربي السوري يواجه إسرائيل وأميركا و«ناتو» في إدلب، وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع.
أما المشروع الآخر في شمال شرق سورية فيأخذ لبوساً يسارياً للتضليل، لكنه في سلوكه ومطالبه ينفذ التعليمات الأميركية- الأطلسية لإضعاف سورية، وتقسيمها تحت عنوان ثقافي- اثني، وهم بهذا لا يختلفون كثيراً عن أولئك الملتحين في إدلب، فالمعلم واحد، والممول واحد، والهدف واحد، وهو خدمة المشروع الصهيوني الهيمني التوسعي الأميركي- الغربي، مهما حاولوا التذاكي بعبارات منمقة ناعمة تتحدث عن الحقوق والمظلومية لأن من يستغل وضع بلده الصعب، والحرب عليه لتحقيق أهداف أنانية، وضيقة تخدم في النهاية سياسة القوى الخارجية لإضعاف سورية ودورها وموقعها، لا ينطبق عليه سوى توصيف واحد، وهو أنه انتهازي وضيع، وسيلقى نهاية الخونة عبر التاريخ.
إذا أضفنا لكل ذلك الاحتلال الأميركي الذي يتوزع على أكثر من 13 قاعدة عسكرية، ودعمه المفضوح لتنظيم داعش، وخلاياه عبر البادية السورية، سنرى المخاطر التي تتعرض لها الدولة السورية وما تزال، وأين يكمن حجم القوى العسكرية السورية، وتوزعها على هذه الجغرافيا.
أما الاحتلال التركي فما يزال يناور تحت عناوين مواجهة المشروع الكردي، ومكافحة الإرهاب الذي يراه بعين واحدة في شمال شرق سورية، ولا يراه بالعين الأخرى في شمال غربها، حيث التركستان والأوزبك والقوقازيون والبلوش، وغيرهم ممن يعملون بحماية تركيا ورعايتها، التي تستفيد منهم في محاولة فرض واقع ديمغرافي ولغوي، وثقافي على الأرض كي تتحول هذه المناطق إن عادت، إلى امتداد لتركيا دون وجود جيش تركي، أي عبر الاستعمار اللغوي، والربط الاقتصادي.
كل هذه التحديات الموجودة ما تزال قائمة، وماثلة أمام القيادة السورية، والأخطر من ذلك أن سلاح التجويع أشهر في وجه السوريين من خلال سلسلة إجراءات أميركية وصلت إلى حد تهديد الدول العربية، وغيرها ممن يفكرون في الانفتاح على سورية بالعقوبات إن تجرأت على كسر جدران العزل والحصار الأميركية.
في ضوء هذا الواقع الصعب والتحديات الجمّة، فإن دمشق لا يمكن لأحد أن يطلب منها أكثر مما تستطيع، وفي الوقت نفسه فإنها ليست ساحة لأحد سوى لسياساتها الوطنية، التي تنطلق من قناعات شعبها وإمكاناتها وقدراتها وظروفها الموضوعية، وعواملها الذاتية، وليتوقف المزايدون عن كتابة مقالاتهم السخيفة التي لا تعبر إلا عن تخيلات في أذهانهم فقط.
أما ما يخص العلاقة بين دمشق وطهران، التي كثر الحديث عنها مؤخراً بطريقة لافتة، فلابد من إيضاح نقاط أراها مهمة:
1- العلاقة بين البلدين قديمة وإستراتيجية، وتقوم على المصالح والمبادئ المشتركة، وهي ليست على حساب العلاقة مع الدول العربية، خاصة أن العديد من الدول العربية بدأت تعيد النظر في العلاقة مع طهران، منها المملكة العربية السعودية، وهذا تطور إيجابي جداً يريح المنطقة.
2- من يطالب سورية بوقف تعاونها مع طهران فيما يخص مكافحة الإرهاب، جدير به أن يطالب أميركا بالانسحاب منها، ويضغط على تركيا لإنهاء ملف احتلالها الأراضي السورية شمال شرقها، واعتقادي أنه حينما يحصل ذلك، سينسحب الإيرانيون بطلب من الحكومة السورية.
3- لم تسأل دمشق أحداً حول طبيعة علاقاته مع دول أخرى لأنها تؤمن أن هذا شأن داخلي لكل دولة تحدده مصالحها الوطنية، ولذلك فإن الطلب من دمشق وقف تعاونها مع طهران، هو طلب سيطول انتظاره.
4- إن الوجود الإيراني في سورية جاء بناءً على طلب الحكومة السورية عندما واجهت خطراً على بقاء الدولة الوطنية، وهي استعانت بالأصدقاء الذين وجدوا أن خطر الإرهاب المعولم سيمتد إليهم أيضاً، ولكن في هذا الوقت كانت بعض الدول العربية في موقع آخر للأسف، وكلما ابتعد العرب عن دمشق ملأ الفراغ آخرون، والمعادلة هنا واضحة كما أشرت.
5- علينا أن نعترف أن هناك اتجاهات داخل إيران تبرز في الصحافة، وتعبر عن آراء قد نختلف بشأنها، فإيران صحيح أنها ساعدت سورية، ولكن من أجل مصالح أمنها القومي، ومصالحها الإستراتيجية، ومن دون دمشق لا تستطيع طهران لعب وتقوية دورها الذي نتحدث عنه، وبالتالي فإنه لا منة في ذلك، فهذا تعاون يقوم على المصلحة المشتركة الثنائية والإقليمية، وليس على منطق التفضل لطرف على آخر.
6- تحتاج العلاقات السورية- الإيرانية لحوارات عميقة بين النخب في البلدين لتصويب الكثير من المفاهيم، وإزالة الكثير من اللغط، الذي يشوبها بين الفترة والأخرى، وهذا أمر لم يتم العمل عليه إلا بشكل متقطع وغير منتظم.
إن الربط بين دمشق وفلسطين لا يحتاج لبرهان ودفاع، بل يحتاج إلى قراءة موضوعية وعلمية، فبقدر حاجة دمشق لأصدقائها وحلفائها، فإنها بحاجة لأشقائها أيضاً بعد طي صفحة الماضي، لكن على هؤلاء الأشقاء أن يدركوا أن ما يحدث في سورية هو نتائج لأسباب، ومن دون التطرق للأسباب ولو ضمناً، فإننا لا يجب أن نحمل الدولة السورية نتائج ما اقترفه الآخرون ومولوه، وكي نصل إلى قواسم مشتركة نحتاج إلى تفكير موضوعي- علمي يخرج من مزايدات البعض، ونفاقهم حول سؤال: أين دمشق من غزة؟ أو أين دمشق من طهران؟ أو أين دمشق من العرب؟ لنطرح السؤال بشكله الواضح والمكشوف: كيف نساعد سورية لتعود قوية بدورها ومركزيتها وألقها وعروبتها، قبل أن نلقي عليها المسؤولية التي لم تتخلَ عنها تاريخياً، ولن تتخلى عنها في المستقبل.
وفي الوقت الذي نطلب فيه من الآخرين التفهم والدعم، فإننا ندرك أن هناك كثيراً من الأشياء مطلوبة منا في هذه الظروف الصعبة، ودمشق ستفعل ذلك ليس إرضاءً لأحد، ولكن من أجل مصالحها الوطنية، ومصالح شعبها، ولتحصين بيتها الداخلي الذي ما يزال مهدداً.
كاتب سوري