في الوقت الذي تتسارع به التطورات العسكرية والميدانية على جبهة الاشتباك داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل عام ومدن قطاع غزة بشكل خاص وما يرافقها من مواقف متناقضة على مختلف المستويات، يبدو أن صورة المشهد في الضفة الغربية وداخل ما يعرف بأراضي الـ48، لم ولن تبقى على حالها، ولاسيما في ظل تغذية مؤشرات مهيئة لانتفاضة ثالثة لا تبدو على مسافة بعيدة من أيامنا هذه، وتتمثل أبرز هذه المؤشرات المغذية على صعيدين، الصعيد الأول المتمثلة بتلك السلوكيات الصهيونية التي كانت موجودة قبل بدء عملية طوفان الأقصى الخاصة بتضييق الخناق على المواطنين الفلسطينيين العاملين داخل المستوطنات، واتساع رقعة بناء المستوطنات داخل مدن الضفة الغربية بما يفصلها عن بعضها ويحولها لسجون واسعة، إضافة إلى التضييق الأمني واستمرار قوات الاحتلال باعتقال أهالي الضفة وسلب ممتلكاتهم من أراضٍ ومنازل وتدميرها بذرائع متعددة ومنح المستوطنين المتطرفين الضوء الأخضر لممارسة فاشيتهم من دون رقيب أو حسيب.
بينما يتجلى الصعيد الثاني في التداعيات التي انبثقت عن مرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى، ولاسيما تلك التي تسارعت وتيرتها خلال الأيام القليلة السابقة من مواقف سياسية وتطورات ميدانية أمنية تسهم بشكل أو بآخر في انفجار الأوضاع داخل الضفة على غرار عملية إطلاق النار التي حصلت في موقف حافلات ضمن مستوطنة «بكريات ملاخي» شرق أسدود والتي أودت إلى مقتل ثلاثة وإصابة خمسة إسرائيليين حاملة معها العديد من المؤشرات التي يتمثل أبرزها بـ:
أولاً- توجه حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية وبدعم من الولايات المتحدة الأميركية لإغلاق كل المسارات السياسية أمام طريق إنهاء العدوان على غزة من خلال التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، على الرغم من فشلها الإستراتيجي في تحقيق أي من أهدافها التي أعلنتها تل أبيب منذ اليوم الأول لبدء هذا العدوان، ومما يؤكد على ذلك، توجه قوات الاحتلال الإسرائيلية بالتلويح لشن عدوان على منطقة رفح التي تحتوي أكبر نسبة سكانية الآن في غزة ما يهدد بارتكاب المزيد من المجازر لدفع أهالي القطاع نحو الهجرة، فعملية العدوان على رفح لم تعد حكراً ضمن تهديدات نتنياهو أو حلفائه من ائتلاف اليمين، بل امتدت لتهديد خصومه من المعارضين في مقدمهم الوزير بمجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس الذي أعلن خلال افتتاحه المؤتمر السنوي لرؤساء المنظمات اليهودية في أميركا منذ أيام قليلة، «أن القتال في قطاع غزة سيستمر خلال شهر رمضان، وسيتسع إلى مدينة رفح جنوبي القطاع إذا لم تتم إعادة المحتجزين»، وسط استمرار الإغداق الأميركي في الدعم المقدم لهذا الكيان بشكل لا يتوافق مع ما تعلنه الإدارة الحاكمة في البيت الأبيض من رغبة في التوصل لتهدئة مؤقتة وفق ما نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين أن إدارة الرئيس جو بايدن تستعد لإرسال شحنة أسلحة جديدة تشمل قنابل «إم كيه-82»، وذخائر الهجوم المباشر المشترك «كيه أم يو-572» التي تضيف توجيهاً دقيقاً للقنابل، وصمامات قنابل «إف أم يو-139» وغيرها، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من حالة الغليان والغضب الشعبي داخل مدن ومناطق الضفة الغربية القابلة للانفجار في أي وقت على شكل انتفاضة ثالثة، ولاسيما مع اقتراب شهر رمضان المبارك الذي قد يشكل مناسبة في ظل ما تتعرض له غزة من مجازر والتلويح باجتياح رفح وما قد ينجم عنه من ارتفاع للقتلى أو التهجير.
ثانياً- تآكل القدرات الاستخباراتية الأمنية والعسكرية للمؤسسات الإسرائيلية التي أظهرتها عملية طوفان الأقصى وما تلا ذلك من عمليات فدائية للمقاومة الفلسطينية تجاوز عددها اثنتا عشرة عملية، ساهمت من ناحية في إضعاف ثقة المستوطنين بقدرة هذه المؤسسات على تأمين مقومات الاستقرار التي يروج لها مسؤولو هذه الأجهزة، ولكنها من ناحية أخرى فإن هذه العمليات الفدائية والبطولية التي سطرها المقاومون الفلسطينيون تزيد من جرعات الثقة والإقدام والرغبة لدى الفئة الشابة القابعة تحت رحمة الإجراءات الفاشية من الكيان، وهو ما قد يشكل عاملاً مؤثراً في توجه الكثير من الشبان للقيام بعمليات فردية أو ما يعرف بعمليات الذئاب المنفردة، تسقط من خلالها أوهام الآمال التي بنيت وفق الخيال الصهيوني من جدوى القبضة الأمنية والسياسات العنصرية الترهيبية التي تتبعها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وفشل كل المناورات والإجراءات التي اتبعتها تل أبيب، والتي كان آخرها عملية «كاسر الأمواج» التي بدأت في نهاية آذار 2022 بغرض تفكيك بنية المقاومة في شمال الضفة الغربية.
ثالثاً_ تسارع وتيرة منح رخص السلاح من الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية للمستوطنين عموماً وللمتطرفين بشكل خاص، ما ينذر بارتكاب هؤلاء أبشع الجرائم من قتل وحرق كما حصل أكثر من مرة في منطقة «الحوارة»، إذ ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ومسؤولين بمكتبه منحوا 14 ألف رخصة سلاح من دون رقابة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي، ومن المتوقع أن يتم منح 400 ألف قطعة سلاح حتى نهاية العام الحالي تضاف لما يقرب من 650 ألف قطعة سلاح وزعت خلال العامين السابقين.
رابعاً- تبني رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قراراً وافق من خلاله على تقييد دخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، بناء على طلب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الأمر الذي حذر منه كل من ما يسمى الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام «الشاباك»، إذ عدَّ أن مثل هذا القرار سيكون له عواقب سلبية مؤكدة نتيجة منع دخول الفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة إلى المسجد الأقصى لممارسة طقوس عبادتهم، في وقت وصف فيه مسؤول أمني إسرائيلي هذه السياسة بأنها برميل بارود «وفق قناة 13».
خامساً- عدم التزام حكومة الكيان بتنفيذ الإجراءات التي طالبت بها محكمة العدل الدولية بالتزامن مع شن نتنياهو هجوماً حاداً على المحكمة قبل ساعات من انطلاق جلساتها المخصصة للاستماع حول العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
سادساً- اقتراب شهر رمضان المبارك، وهي من الفترات الزمنية التي من شأنها أن تدفع الكثير من الشارع الفلسطيني لتبني قرار المواجهة مع قوات الاحتلال بالإمكانات والوسائل المتوافرة، وخاصة في ظل استمرار ارتكاب المجازر في قطاع غزة أثناء هذا الشهر ومنع المسلمين أو التضييق عليهم لعدم ممارسة شعائر هذا الشهر الفضيل في أقدس المدن، وهذا الموقف قد لا ينحصر داخل الأراضي المحتلة، بل قد يمتد إلى داخل الدول العربية والإسلامية التي قد تشهد مظاهرات واسعة تشكل عامل ضغط على أنظمتها السياسية لتبني موقف واضح ومحدد والقيام بما يعرف «بجهاد الواجب».
العمليات الفدائية أو ما بات يعرف بعمليات الذئاب المنفردة من المؤكد أنها في تصاعد في ظل تعنت الحكومة الإسرائيلية اليمينية التي يرأسها بنيامين نتنياهو في التوصل لأي اتفاق سياسي حول غزة وزيادة الخناق والحصار على الفلسطينيين الذين هم اليوم يخوضون أخطر مراحل صراعهم الوجودي في ساحة المواجهة مع الكيان الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن زيادة حجم ونوعية عمليات الذئاب المنفردة في هذا التوقيت الذي تتبجح به المؤسستان العسكرية والأمنية بالتهديد بتوسيع رقعة الصراع مع لبنان والمنطقة، يزيد من تأزم وضعها، إلا أنها قد تدفع المتطرفين وخاصة الذين يدارون من وزير الأمن إيتمار بن غفير للقيام بعمليات انتقامية في ظل عدم وجود روادع تمنعهم للقيام بإرهاب ممنهج.
لذلك، فإن التحضيرات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هذا العام للتعامل مع هذا الشهر الفضيل تعتبر الأشد حساسيةً منذ الاحتلال الإسرائيلي للمسجد عام 1967، تبعاً للظروف غير المسبوقة التي تمر بها قضية الصراع داخل الأراضي المحتلة وضمن النطاق الجغرافي الإقليمي، وهو ما دفع العديد من مراكز الدراسات ووسائل الإعلام الإسرائيلية أو المقربة منها «لقرع جرس الخطر» نتيجة ما يلوح به الأفق القريب من اندلاع انتفاضة ثالثة.
كاتب سوري