ثقافة وفن

مضامين المثل الشعبي … إيجاز باللفظ وجودة بالكناية وحلو بالمعاني وسهولة بالاكتناز… وهي مرآة لحياة الشعب

| منير كيال

للمثل الشعبي على بساطة تعبيره، جرس موسيقي محبب إلى الأذن، ترتاح له النفس. وهذا بالطبع من أهم الأمور التي تساعد على انتشارها بين الناس، فيأخذه الصغير عن الكبير، والزائر عن المقيم، ثم لا يلبث أن يستعمل بالمواقف التي تتماثل والمثل بحياة الناس.
وإذا كانت العقول الفريدة قد صاغت الأمثال، فإن عامة الناس أذاعتها وروّجتها، ثم عملت التغييرات الاجتماعية على تطوير مقولات الأمثال ومضامينها ومدلولاتها، بما يتناسب ومدلول المثل بتصوير العلاقات التي تسود بين أفراد المجتمع.
ولو توقفنا عند قصص المثل الشعبي لوجدنا أن من هذه القصص ما كان متداولاً، ثم قولبها الخيال الشعبي وفقاً لمتطلبات الحياة، كما أن من هذه القصص، ما تولّد عن المثل الشعبي نفسه، للدلالة على وجه القبول بالمثل. ومن الأمثال ما تناول الإنسان قصصاً حولها، فيطلقونها عندما يواجهون بحياتهم حدثاً أو قصة مماثلة، لقصة المثل، ومن ذلك:
كف عدس: للجاهل ببواطن الأمور.
دقّة بدقة ولو زدت لزاد السقا: لزائغ البصر نحو حرمات الآخرين.
خطف الكباية من رأس الماعون، للمتسرع.
وغير ذلك من الأمثال التي كانت في أصلها نتيجة لمعاناة الناس لأحداث وقعت ثم ما لبثت أن صيغت بأمثال شعبية درجت على لسان العامة. بعد أن تلاشت القصة وبقي المثل شاهداً عليها.
وأما ما كان من أمر مواكبة المثل الشعبي للحياة، فإن من الممكن القول إن ذلك يعود إلى اعتماد المثل على الحياة المعيشة، لأن المعايير التي تحكم حياة الناس، لابد أن يطرأ عليها تبدّل يساير تطور وتبدل حياة الناس، الأمر الذي رافقه تطور في دور المثل في تصوير العلاقات التي تسود الجماعة بأبعاده وأفكاره، وبالتالي ظهور أمثال جديدة تتوافق مع الواقع الجديد.
وإذا كنّا نلحظ من هذه الأمثال ما عليه من الديمومة، فإن ذلك يعود إلى ما هي عليه هذه الأمثال من البراعة ودقّة المعاني وحلاوة اللفظ وصدق الأداء وشدّة الالتصاق بالناس، لأن الخروج عن هذه الأمثال إنما هو خروج عما تعارف عليه الناس، وما تواضع عليه الوجدان الجمعيّ.
ونظرة عاجلة، في أمثالنا الشعبية الدمشقية تجعلنا أمام مجموعات منها تعالج مختلف مجالات الحياة، مجموعات تتخذ نقداً للآخرين وتوجيه النصح له.
ومجموعة تتناول جوانب سلبّية من العلاقات بين الناس، مقابل مجموعة أخرى تتكرّس للتعايش بين الناس، وبالتالي مجموعة أخرى عما للجار من مكانة بين الجوار، ثم مجموعة أخرى عن التعاون مع الآخر.
وهكذا فإن لنا أن نذكر من الأمثال التي تعالج مختلف مجالات الحياة، وعلاقات الناس من بينها:
حكي الوجه قوّة، وحكي القفا مروّة.
خبز الرجال عالرجال دين، وعالأنذال صدقة.
يللي ما بتزينه عروقه (فعاله) ما بتزينه خروقه (ملابسه).
أكبر منك بيوم… أعرف منك بسنة.
ونجد من الأمثال ما هو في نقد الآخرين، وتقدير النصح المباشر وغير المباشر، للتبصر بعواقب الأمور، ومن ذلك.
على قدّ فراشك مد رجليك.
بيدوب الثلج وبيبان المرج.
هين فلوسك ولا تهين نفوسك.
حارتنا صغيرة، ومنعرف بعضنا.
إذا كان صاحبك عسل لا تلحسه كله.
أما ما كان من الأمثال عن أحوال الأسرة، فنجد منها أمثالاً منها ما تعلق بالزوجين، وبين الكنة وحماتها وبنات حماها، وكذلك بين السلايف والضراير ومن هذه الأمثال:
الدم ما بيصير مي.
أهلك ولو تهلك… ولو دبوك عالمهلك.
زيوان البلد، ولا القمح الجلب.
الفرس (الزوجة) من الفارس.
وإذا كان من الأمثال ما يعكس جوانب سلبية، نتيجة للظروف التي عاشها أو يعيشها المجتمع، فإن نظرة المثل الشعبي لم تكن قاصرة على هذا البعد. فالإنسان اجتماعي بالطبع، وهو بحاجة إلى أخيه الإنسان، للتعاون والتعايش… وهكذا نجد على الألسنة أمثالاً تؤكد حرص الإنسان على إنسانيته باللقاء والتعاون على ظروف الحياة، وبالتالي التواد والتراحم والتواصل:
فعن حب الإنسان لجاره واعتزازه به والتعايش والتعاون معه أمثال كثيرة، وذلك لما للجار من حرمة والتزامات اجتماعية وأخلاقية على جاره، وقد قالت الأمثال في حق الجيرة أمثالاً منها:
جارك القريب ولا أخوك البعيد.
الجار… ولو جار.
إلا أن تلك الحقوق للجيرة قد قيدها المثل الشعبي بضوابط ترمي إلى صيانة حرية الإنسان الشخصية في منزله، ومن هذه الأمثال:
يا جاري… أنت بحالك وأنا بحالي.
فوتة الجار لعند الجار… أولها مذلّة وآخرها معيار.
زد على ذلك فقد خص المثل الشعبي بموضوع التعاون مع الآخرين، والتحسس بآلامهم جانباً كبيراً:
قوم تعاونوا ما غلبوا.
إيد واحدة ما بتصفق.
وقد رصد المثل الشعبي، ما كان في مفارقات الحياة اليومية، لتقويم ما اعوج من قول أو سلوك أو تعامل بين الناس، أكان ذلك بأسلوب الزجر، أم التساؤل وتجاهل العارف، أم حتى بأسلوب النصح، وصولاً إلى الالتزام بالأعراف ومن ثم بلورة المفاهيم القومية والإنسانية.
ومن ذلك الالتزام بالاعتدال والقناعة، في علاقات الأفراد في حياتهم اليومية مع أنفسهم وتعاملهم مع الآخر. فلا يثقل المرء على صاحبة مستغلاً طبيته وتسامحه، على نحو من الابتزاز والأنانية، فكان قول المثل:
إذا كان صاحبك عسل… لا تلحسه كلّه.
شي منّه ولا كلّه.
يا ضربتي من غير كيسي.
وفي السياق نفسه يطلب المثل الشعبي، أن يضع المرء الحدّ على نفسه، فيأخذ بعين الاعتبار محاسبة الضمير في تعامله مع الآخر، فيحب للآخرين ما يحب لنفسه. فقال المثل في ذلك:
حط أصبعتك بعينك… مثل ما بتوجعك بتوجع غيرك.
فضلاً عن ذلك فقد طلب المثل الشعبي الاعتدال بتناول الطعام وتجنب الشره، لما في ذلك من ضرر على صحة الإنسان. فقال المثل في ذلك:
إذا كان الأكل مو (ليس) إلك… بطنك مو إلك.
وفي ذلك قول النبي الكريم (ص):
(البطنة تذهب الفطنة).
وقوله: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع… وإذا أكلنا لا نشبع).
ومن أمثال العرب بهذا المجال قولهم:
أقلل طعامك.. تحمد منامك.
وفي القناعة، يطالب المثل، أن تكون مطالب الإنسان ومتعه العاجلة على نحو من الاعتدال، للإبقاء على المودة بين الناس، وإحلال التسامح في العلاقات بين الناس، ومن ذلك.
الطمع ضرّ ما نفع.
الطمع بالجامع.
ومن أمثال العرب في ذلك قولهم:
القناعة كنز لا يفنى.
في الطمع مذلة للرجال.
أكثر مصارع الرجال تحت بروق المطامع.
أما ما كان من إسداء النصح، فقد حمل المثل الشعبي روح الردع، أكان ذلك بلهجة الأمر أم التقرير، ومن ذلك.
على قد فراشك مدّ رجليك.
كما يشيد المثل الشعبي بالموقف الشهم مع الآخر، فيطلب إلى المرء الجرأة والصدق والصراحة، في قوله ومواقفه، ومن ذلك:
حكي الوجه قوة، وحكي القفا مروة.
ذلك أن المرء الذي ينجز ما يعِد، ويفي بما وعد، خليق بالاحترام والتقدير، وأن يكون قدوة تُحتذى.
وبالمقابل يقدم لنا المثل الشعبي صورة معاكسة، لمن يراوغ ويخادع، فيظهر لك الودّ بحضورك، فإذا غبت عن ناظريه، انصرف إلى غيرك، يمدحه ويثني عليه وينال منك ويغرقك بالمثالب والنقائص، مما يصوره لنا المثل الشعبي:
بوجهين ولسانين.
وورد عن رسول الله (ص) قوله:
«إن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً».
وقد شبه المثل الشعبي هذا النوع من الناس بقوله:
مثل حية التبن.. بتقرص وبتخبي راسها.
ولا يقل النمام، بما يزرع من الأحقاد بين الأحبة والصّحب بما ينقل ويؤول من أخبار وخصوصيات، وقد قال فيه المثل الشعبي:
الله يلعن العجيب يللي بياخد وبيجيب.
وجاء في قوله تعالى بسورة القلم:
«همّاز مشاء بنميم، مناع للخير معتِد أثيم».
كما أن من الأمثال ما تصدى لمن يجعل همّه تصيّد الآخرين، ويتبع مثالبهم، وهو أحوج الناس إلى ستر عيوبه، فكان من هذه الأمثال:
من غربل الناس نخلوه.
يللي بيته من زجاج.. ما بيرمي الناس بحجار.
يللي فيه مسلة بتنخزه.
لو شاف الجمل حردبته، لوقع وانكسرت رقبته.
ومن أهم أمثالنا الشعبية ما كان في موضوع حفظ المرء لسانه عن الآخرين، أكان ذلك بأسلوب النهي، أم بالتوجيه والتجريح والنقد، لأن من يطلق لسانه بحق الآخرين بلا رادع ولا وازع، ولا يسلم الآخرون من شره وإسرافه، ترد عليه الأمثال بالقول:
لسانك حصانك إذا صنته صانك، وإن خنته خانك.
إذا الكلام من فضّة.. فالسكون من ذهب.
اللسان الحلو، بيطالع الحية من وكرها.
وقد جاء في أمثال العرب قولهم:
إن البلاء موكل بالمنطق.
رُب رأس، حصيدة لسانه.
ربّ حرب شبّت من لفظة.
وقالت الأمثال في حقّ من لا يرعوي عند حد بالتعرض للآخرين، ولا يراعي مشاعرهم:
لسانه فِلتي وإيده فاروطية
لسانه مثل قصص الإسكافي، ما بيقصّ إلا على نجاسة
لسانه بسبع شطلات
لسانه متبري منه.
ونرى في الأمثال التي تحضّ على الالتزام بقواعد السلوك التي كان عليها السلف، أمثالاً تتصدى لناكر الجميل، وإن بدت هذه الأمثال على نحو من شدة الوقع وقسوة الخطاب، فإنها تضيء لنا جانباً مما كان عليه أسلافنا، ومن ذلك:
بتقدّم له العليق.. بيقدّم لك اللبيط.
ملحه على ديله.
مثل الأطاط، بياكل وبتنكر.
وقد قال تعالى في محكم التنزيل من القرآن الكريم:
«هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»
ومن أمثال العرب في ذلك قولهم:
أريد حباءه ويُريد قتلي
لو ألقمته عسلاً عضّ يدي.
وفي ذلك قول الشاعر:
أعلّمه الرماية كل يوم
فلما اشتدّ ساعده رماني
وهناك مجالات أخرى تعرضت لها أمثالنا الشعبية، منها ما كان في التعالي على الآخرين، ومن كان يتظاهر بالغنى.
كقولهم:
كبرت البيتنجانة وتدندلت أجراسها، ونسيت قفة الزبالة على راسها.
نطّ من القفة لأذانها.
كبر القمر وتدوّر، ونسي زمان الأوّل
وذلك تأسيا بقوله تعالى بسورة لقمان:
«إن الله لا يحب كل مختال فخور».
وقوله تعالى بسورة الإسراء:
«إنك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولاً».
والحض على العمل له مكانة في أمثالنا الشعبية، ذلك إن الرجل المعدّل (الزكرت) لا يقبل أن يكون عالة على غيره، لأن العمل يعطي الإنسان إحساساً بالقيمة والمسؤولية، وقد أجمل أجمع المثل الشعبي على نطاق الوطن العربي على التحذير من الكسل والتواكل، وقد سارت أمثال بهذا النحو نذكر منها:
الغزالة الشاطرة بتغزل على ذنب الكلب.
صنعة باليد، أمان من الفقر.
أما في الطقس وأحوال الجو، فقد صاغت لنا الأمثال قواعد لكل ظفر أو ناحية من أحوال الطقس على مدى أيام الجو.. للتعرف على الأطر التي تحكم هذه الأحوال.. وكانت هذه الأمثال نتيجة لما يدقق الإنسان ويلاحظ ويستنبط وصولاً إلى الأطر التي تحكم أحوال الطقس فصاع الإنسان أمثالاً لذلك نذكر منها.
بكانون كنّ، وعالفقير كنّ.
إذا كان القمر بالطارة، الليلة مطارة.
إن شرق (الهواء) من الغرب علّق.
مطرة نيسان بتحيي السكة والفدان.
بنيسان لا تكسر نفسك لإنسان.
إذا غيمت باكر، حميل عصاك وسافر، وإن غيمت عشية، لاقي لك مغارة دفية.
وبعد.. هذا غيض من فيض، أرجو من القارئ الكريم أن يجد في ذلك جدوى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن