تثبت الولايات الأميركية أنها لا تعزو أي أهمية لمحاسبتها على الجرائم التي نفذتها أو أدينت بارتكابها خلال أكثر من قرن من الزمان، ولو كانت تفعل ذلك لكانت قد خفضت كثيراً من انتهاكها لكل المواثيق الدولية التي تبنتها الأمم المتحدة والقانون الدولي، فهي حتى الآن لم تعتذر رسمياً على ضرب مدينتين يابانيتين عام 1945 بقنبلتين نوويتين بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل تمكنت بفضل إرهابها وغطرستها من تجنيد اليابان في تحالفها ضد الدول الأخرى وضد مصالح الشعب الياباني.
ولها في ملف الصراع العربي الصهيوني شراكة مباشرة مع إسرائيل في كل ما نفذه جيش الاحتلال الإسرائيلي من حروب واجتياحات عسكرية ومذابح طوال أكثر من خمسين عاماً ودون أن تحسب أي حساب للعالم كله حين تبنت مجمل سياسة رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو في آخر حروبه ومذابحه ضد قطاع غزة في السابع من تشرين الأول، واستخدمت الفيتو للمرة الثالثة خلال أسابيع ضد الإرادة الدولية لمنع اتخاذ مجلس الأمن الدولي قراراً بالإجماع لفرض وقف نار إنساني يوقف المذابح التي ترتكبها إسرائيل ضد النساء والأطفال، وهي التي تنفذ كل أشكال القتل الجماعي بنيران الأسلحة، ومنع مصادر المياه والغذاء والدواء عن أكثر من مليونين من الفلسطينيين بالإضافة إلى تدمير المستشفيات وكل البنى التحتية من منازل ومدارس على مرأى من البشرية كلها، بل إن جيشها يعد الآن بموجب إحصائية مجلة «أنتي وور» الأميركية الجيش الذي قتل مباشرة بنيرانه أكبر عدد من الصحفيين بالمقارنة مع كل الدول التي قتلت صحفيين في الحروب، ولا تتورع الولايات المتحدة عن الإعلان عن رفضها مسبقاً لأي قرارات تتوصل إليها محكمة الجنايات الدولية لإيقاف إسرائيل عن الاستمرار بارتكاب جريمة إبادة شعب في فلسطين المحتلة، وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أرسلت مستشارها للشؤون القانونية ريتشارد فيسيك إلى محكمة الجنايات الدولية لمنع اتخاذ قرار قانوني يعد إسرائيل دولة محتلة للأراضي الفلسطينية وإدانتها بمنع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهو مشروع القرار الذي تقدمت للدفاع عنه في محكمة الجنايات الدولية أكثر من 51 دولة بما فيها بعض الدول العربية، وعلى لسان الولايات المتحدة أعلن فيسيك أن «المحكمة يجب ألا تناقش هذا الموضوع بل يمكنها أن تطرح أسئلة حول مفاوضات مبدأ الأرض مقابل السلام فقط لأن أي رأي قانوني تتخذه المحكمة سوف يحمل نتائج على أطراف النزاع وعلى الجهود المبذولة لتحقيق سلام دائم»، وهذا يعني أن واشنطن لن تسمح للموضوع الفلسطيني بالإفلات من سياستها الداعمة بلا تحفظ لكل المطالب الإسرائيلية ومنع الانسحاب من الأراضي المحتلة وهي تسعى من وساطتها إلى تمهيد كل السبل العسكرية الإسرائيلية لانتصار جيش الاحتلال على الشعب الفلسطيني ومقاومته على حين أن استطلاعات الرأي التي كشفت عنها صحيفة «هآريتس» في 21 من شباط الجاري توضح أن «أغلبية الإسرائيليين تعتقد بضآلة احتمال أن تحقق إسرائيل الانتصار على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية»، وبالمقابل أكد الكاتب السياسي الأميركي والمحرر في مجلة «أنتي وور»، ديف ديكامب، في 22 شباط الجاري أن «تخصيص إدارة الرئيس الأميركي جو بايدين لمبلغ 14 مليار دولار لإسرائيل هذا العام يهدف إلى إعداد حرب إسرائيلية إقليمية متعددة الجبهات وليس حرباً على قطاع غزة فقط، وهذا ما أعلنه بشكل غير مباشر أحد المسؤولين الأميركيين لمجلة «جويش تيليغرافيك إيجانسي» اليهودية حين قال إن «هذا المبلغ يراد منه تأمين إسرائيل للدفاع عن نفسها في حرب متعددة الجبهات، ولكي تضمن قدرتها على ردع حرب كهذه»، وتشير صحيفة «تايمز اوف إسرائيل» إلى أن «الجيش سوف يخصص خمسة مليارات من هذا المبلغ لتعزيز قدرات الدفاع الجوي المضاد للصواريخ وبخاصة في مواجهة حزب اللـه في الشمال».
ومع هذه الاحتمالات والافتراضات التي يجري التداول فيها يصبح كل نشاط ووساطات سياسية أميركية مجرد مرحلة للتمهيد لهذه الحرب الإقليمية التي تجد كل من واشنطن وتل أبيب ضرورة لها في التوقيت المناسب لهما لمنع تحقيق أي إنجاز فلسطيني أو عربي إقليمي يعقب عملية طوفان الأقصى والتضامن الإقليمي والعالمي الذي حققه الشعب الفلسطيني لمصلحة قضيته وحقوقه الوطنية، وهذا ما يشكل امتداداً للسياسة الأميركية نفسها التي لا تضع لنتائج أعمالها أي حسابات تتعلق بالشعوب وحقوقها المشروعة.