غالباً ما تؤدي الأزمات الكبرى التي تعصف بالبنى الدولتية والمجتمعية، إلى تراجع أولويات التفكير المجتمعيّ، التي تتناسب طرداً مع متطلبات المعيشة ومصاعبها وحاجياتها، ويصبح معها التنظير مسألةً منبوذةً اجتماعياً وفكرياً، ومنفّرةً من أصحابها مهما بلغ عمق تعاطيهم مع المسائل المطروحة، ولأنّ الأزمات غالباً ما تكون كاشفةً لثغرات وسلبيات الواقع، تصبح مسألة الإصلاح أكثر تعقيداً من الناحية الشعبية والفكرية، لاسيما مع رفض المجتمع منطق التفكير التنظيري، ومعه يصبح لزاماً المواءمة بين حاجات المجتمع وأولوياته مع متطلبات الإصلاح، فلا نجاح للإصلاح إلّا باستجابةٍ مجتمعيةٍ له، وبين هذا وذاك يصبح التفكير المنهجي أو المنظومي هو العلامة الفارقة «السيميائية» القادرة على تحقيق الاستجابة الشعبية، فالتفكير المنظومي «المنهجي» هو منهجٌ شموليّ للتحليل يركز على الطريقة التي تترابط بها الأجزاء المكونة للنظام وكيفية عمل تلك الأنظمة بمرور الوقت، خصوصاً في سياق الأنظمة الأوسع اجتماعياً وسياسياً، يُهتم بالتغذية الراجعة عنصراً أساسياً في التفكير، ويتضمن تحديد المشكلة وجمع المعلومات وتحليلها وتطبيق الحلول المناسبة وتقييم النتائج، ورغم أهمية التفكير المنطقي «التنظيري» الذي يركّز على الأفكار والمفاهيم، إلّا أنه لا يكتمل عملياتياً إلّا من خلال التفكير «المنهجي» القائم على الآليات والإجراءات.
يمر حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية راهناً بمرحلةٍ تاريخيةٍ مهمةٍ ومعقدة، فرضتها مفرزات الحرب، وربما كانت هذه الحرب كاشفةً لبعض أوجه قصورها، ولأنّ «البعث» قضيةٌ فكريةٌ، وهوية معتقد، قبل أن يكون تنظيماً مؤسساتياً، ما يفرض عليه النظر باستمرارٍ والبحث في التغيرات المجتمعية والثقافية التي يعيش فيها ويستجيب معها من خلال رؤيةٍ محددة، تحدد إجراءات الاستجابة بناءً على المفاهيم المناسبة، ولكي تكون هذه الاستجابة مستدامةً وناجعةً، يجب ألّا تكون تنظيريةً وبالوقت نفسه ألّا تكون شعبوية، وهو ما يحتّم أن تكون «منهجية»، من هنا تأتي أهمية لقاء الأمين العام لحزب البعث الرئيس بشار الأسد مع مفكرين وباحثين وأكاديميين بعثيين، فاللقاء لم يكن تنظيرياً، بل كان تشريحياً لواقع «البعث»، ينطلق من الجزئيات لبناء الصورة الكلية، ويركز على الأدوات والآليات لبناء الرؤية الشاملة، ووضع تصوراتٍ عنها، واللقاء لم يكن الهدف منه بناء صورةٍ تجميلية، بل خاض في أدّق تفاصيل وهموم البعث تنظيمياً وفكرياً، في محاولة لتطوير الحزب كتجربةٍ وممارسةٍ في سبيل تحقيق أهدافه.
يعيش «البعث» اليوم مرحلةً انتخابيةً مهمةً في ظروفها وطبيعتها، فالظروف الاجتماعية صعبةٌ مع مفرزات الحرب على سورية من جهة، والتحديات الاقتصادية التي فرضها الحصار الغربي الاقتصاديّ الظالم على سورية من جهةٍ أخرى، من دون إغفال تأثير التحولات الاجتماعية في بنية المجتمع السوري في عصر التواصل الرقمي وهيمنة الصورة، الأمر الذي أفرز ظاهرة الآراء الشعبوية التي تتلاعب بعواطف الناس مستغلة حاجاتهم اليومية، وتضر بالأحزاب كنظمٍ مؤسساتيةٍ من ناحية البيئة الحاضنة وطرق الاستجابة لتغيرات المجتمع، أمّا من ناحية الطبيعة فالانتخابات الراهنة تعدّ استكمالاً لمنهج دمقرطة الحزب، وتوسيع دائرة المشاركة في حياته وصنع القرار داخل «البعث»، بدءاً من تجارب الاستئناس الحزبي السابقة وصولاً للانتخابات الراهنة، فالمشاركة ليست مجرد صوتٍ في صندوق انتخابي، بل هيّ إرادة صنع التغيير والفرق في الاستجابة، وجزءٌ من منهجٍ التشاركية في صنع القرار، بناءً عليها تصبح المسؤولية من الأدنى لا تقلّ أهميةً عن المسؤولية من الأعلى، فالمشاركة هنا مسؤوليةٌ تنعكس على الاختيار، فبقدر ما تكون الاختيارات مبنيةً على معايير سليمة بقدر ما تكون المشاركة في صنع القرار ناجعةٌ، والعكس صحيح، فالولاءات الضيقة والمحاباة وما ينتج عنها، هي في النهاية اختيارات قد تخفيها آليات الديمقراطية ذاتها، لكنّها في الحقيقة لا تعكس مستوى المسؤولية المطلوبة، وهنا تصبح المخرجات مسؤولية الناخب قبل أن تكون مسؤولية البنية الحزبية، لذلك مسألة الوعي الانتخابيّ لا يمكن فصلها عن الوعي الوطني بل هي جزءٌ منها.
الرئيس الأسد لم تشغله القضايا الآنية والمتغيرة كالأسماء التي ستفرزها الانتخابات بقدر انشغاله بالمنهجية الدائمة التي تفرز نتائج جيدة، فبقدر ما تكون آليات الحزب موضوعيةً بقدر ما تكون النتائج جيدةً وتخلق ديناميكيةً سريعة داخل الحزب لاستجاباتٍ مجتمعيةٍ وتنظيميةٍ فعالة، والانتخابات إجراءٌ في سياقٍ أكبر هو تطوير الحزب، هذه المنهجية وفق رؤية الرئيس الأسد ديالكتيةٌ تبادليةٌ يمكن أن تنطلق من الرؤية الكبرى للحزب لتنعكس على الآليات، كما يمكن أن تنطلق من الآليات والتجربة والممارسة في غياب رؤية جاهزة تساهم لاحقاً في نضوجها، وهنا كانت دعوته للجميع لتقديم أفكارٍ حول تلك الآليات الحزبية سواءٌ في الانتخابات أم الاستئناس أو إسناد المهام لممثلي الحزب في السلطة، ودعوةٌ إلى نقاش المعايير، التي تضمن وصول أفضل البعثيين لشغل المهام التنفيذية والمكلفين بنقل رؤية البعث إلى السلطة كسياساتٍ ورؤى، وفي سياق الحديث عن رؤية «البعث» أسند الرئيس الأسد مسألة وضع استراتيجياتٍ كبرى لمستقبل الدولة والمجتمع للحزب بكامل مستوياته التنظيمية، على أن تكون علنيةً وواضحةً تسمح بالنقد البنّاء المزدوج للاستراتيجيات ذاتها، وللإجراءات الحكومية التي يُفترض أن تعكسها كسياسات، وبالتالي وزّع الرئيس الأسد المسؤوليات بين الحزب كبنيةٍ تنظيميةٍ وبين ممثلي الحزب في السلطة، بما يسمح للقواعد الحزبية بممارسة دورها في النقد والمحاسبة سواءٌ للبنى الحزبية على رؤيتها الاستراتيجية الكبرى، أو لممثلي الحزب في السلطة التنفيذية على إجراءاتهم وسياساتهم التطبيقية، الأمر الذي يدفعني للقول إنّ الحزب قد بدأ بوضع نظريته الخاصة للسلطة بمعنى «تصوره عن الآليات والسياسات والمحاسبة»، بعيداً عن ذهنية «الحزب القائد»، لتحلّ مكانها عقلية ومنهج «الحزب الحاكم»، التي تتطلب ديناميكيةً تفاعليةً مع المجتمع بشكلٍ مكثفٍ قائمةً على فكرة المصلحة المتبادلة، وفي هذا مصلحة حزبيةٌ كبرى.
لعلّ المسألة الأكثر حضوراً في لقاء الرئيس الأسد هي صناعة رؤيةٍ شاملةٍ للحزب لقضايا المجتمع والدولة وتحدياتها الراهنة والمستقبلية بعيداً عن ثقافة التنظير، بل بالاستناد إلى منطق التفكير المنهجي، الذي يبحث عن الآليات التنفيذية والمعايير السليمة، واستناداً إلى التشاركية في صنع الرؤية من خلال الحوار بين مختلف المستويات الحزبية، والمشاركة الفاعلة في الانتخابات كمشاركةٍ في المسؤولية أيضاً، هذه التشاركية عنوانها الأغلبية، وفي هذه الجزئية تفصيلٌ مهم، فقبول رأي الأغلبية في الحزب واجبٌ، ودخولها في وعينا السياسي مهمٌ انطلاقاً من مبدأين: الأول ديمقراطيّ، فالإجماع غالباً مسألةٌ صعبةٌ والأغلبية هي تعبيرٌ عن إرادةٍ عامة يجب احترامها، والثاني انضباطيّ تنظيمي فالالتزام الحزبي مبدأ تنظيميّ عامٌ في جميع الأحزاب، ما يفرض التزام جميع الأعضاء بإرادة الحزب الذي يعكسها رأي الأغلبية، من دون التقليل أو مصادرة الحق في الرأي الحزبي لأحد والتي تًحترم في البنية الحزبية من خلال آليات الحوار والمشاركة.
ولأنّ التفكير المنهجيّ كان مرتكز اللقاء، كان الهدف منه ومعه الخروج بعناوين جديدةً تًطرح للمرحلة المقبلة، وهي دعوة من الرئيس الأسد وتكليفٌ لتقديم مقترحاتٍ لأفكارٍ وآليات تعمّق حالة تطوير ودمقرطة الحزب، وتعزز استجابة «البعث» لمتطلبات وحاجيات المجتمع المتغيرة وفق ظروفه، عبر رؤيةٍ شاملةٍ موضوعيةٍ قابلةٍ للتطبيق، يمكن تحويلها إلى سياساتٍ تنفيذيةٍ تعالج مفرزات الحرب والحصار على المجتمع السوريّ، هذا المجتمع الصامد حضرت كلّ همومه وتطلعاته في مقاربة الرئيس الأسد، التي يعمل على تلبيتها والاستجابة لها بمنهجيةٍ عمليةٍ ومقاربة علميةٍ ورؤية استشرافيةٍ عقلانية.
إنّ التشاركية في صنع الرؤية الحزبية الشاملة للمستقبل والمبنية على الحوار البعثي المتعدد المستويات، ورأي الأغلبية، وإبداع الآليات المناسبة لكلّ استحقاق، وإتقان بناء المعايير الوطنية والحزبية، هي من تضمن الحيوية داخل «البعث»، وحيوية «البعث» هي رافعة سورية لتجاوز محنة الحرب وآثار الحصار الغربي الجائر على المجتمع، فـ«البعث» كان ومازال عنوانه الشعب وبوصلته الشعب، والعدالة الاجتماعية في صلب أولوياته عبر منهجٍ اشتراكي معاصرٍ يقارب الاشتراكية من منظورٍ سوريّ جديد، يحفّز الاقتصاد، ويضمن العدالة الاجتماعية في المجتمع، ويراعي تطورات النظم الاقتصادية ومتطلباتها، منهجٌ يحصّن المجتمع أيضاً من موجة «الليبرالية الحديثة» التي تجتاح العالم والساعية لتقويض مجتمعاته وتهديم بناه القيمية والأخلاقية، وتزييف وعيه، الأمر الذي يتطلب تشاركيةً في المسؤولية، وتشاركيةً في صنع سياسات المواجهة عبر حوارات المجتمع والحزب وما تنتجه آليات الحوار تلك من مخرجات.
لذلك الجميع مدعوٌ للحوار والتشاركية وتحمّل المسؤولية، وتقديم الأفكار والمقترحات، لإنجاح «التجربة البعثية» ورؤيتها لمستقبل الحزب والدولة.
كاتب سوري