قضايا وآراء

«البعث» بين آلية «القائمة الانتخابية» وآلية «دعم المرشح الأفضل»

| د. مازن جبور

لقاء الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي الرئيس بشار الأسد، مع مجموعة من المفكرين والباحثين والكتاب البعثيين، للحديث عن دور الحزب في مستقبل سورية، مثّل انطلاقة جديدة في العمل الحزبي سواء على صعيد الرؤى أو على صعيد الإجراءات، وارتباط المنهجين ببعضهما، لأن الرؤية تولد إجراء، والإجراء يستنبط منه رؤية، فالانتخابات إجراء تتطلب استنباط رؤية ومعايير منها لما بعدها، على أن يؤخذ بنسبية المفاهيم والابتعاد عن قولبتها، حيث يكون الحوار كفيلاً بتطوير الإجراء والرؤية والمفهوم معاً، انطلاقاً من أن الحوار هو العنصر الذي تستند إليه عناصر التطوير.

تشكل الانتخابات الإجراء الحالي الذي يقوم به حزب البعث العربي الاشتراكي، مع العلم أن الانتخابات الحزبية الحالية ليست الإجراء الانتخابي الأول في حياة الحزب في المرحلة الحالية، فقد سبقه تجربة الاستئناس الحزبي وخوض انتخابات الإدارة المحلية، ولكل تجربة آلياتها ومعاييرها، فالآلية الجديدة في الانتخابات الحزبية الحالية هي لجنة الإشراف على الانتخابات، والتي مهمتها ليس الإشراف فقط بل تقييم العملية وتطويرها، على أن يتم في المرحلة القادمة التوسع عمودياً في العملية الانتخابية، على ألا يكون معيار نجاح الانتخابات مربوطاً بالأسماء، بل بسلامة الإجراء، وسلامة الإجراء تكون بتحويل الأشخاص إلى معايير، وهنا تكون المنافسة بالإنجاز وليس بعدد الأصوات الانتخابية فقط.

في هذا السياق، لابد من الإشارة إلى مسألة إجرائية أساسية في آلية التعاطي الحزبي مع الانتخابات، إذ إن الحزب يخوض الانتخابات على مختلف مستوياتها من خلال ترشيح ممثليه ضمن قائمة حزبية جاهزة وملزمة لأعضائه، ولأعضاء الأحزاب المنخرطة معه ضمن الجبهة الوطنية التقدمية، على اعتبارها تضم مرشحين عن تلك الأحزاب أيضاً، هذه الآلية تقود الرفاق البعثيين إلى حالة من التواكل على الجهاز الحزبي، حيث يصبح الحزب حاملاً لهم، يقوم بحملهم إلى موقع السلطة سواء كانت تنفيذية أو تشريعية، وفي الوقت نفسه تمثل تقييداً للجماهير برؤية معينة، ستقود إلى حالة تمثيلية محددة، وهذا ما ينتج عنه ضعف بالمشاركة الانتخابية، نتيجة فقدان الأمل والثقة، وصولاً إلى حالة من اللامبالاة والاغتراب، فكل ما سبق له علاقة وثيقة بالآليات، وما ينتج عنها من سلبيات يجب معالجتها، وهو ما يعمل عليه حزب البعث العربي الاشتراكي في المرحلة الحالية من خلال تجربة اللجنة العليا للانتخابات وتعميم الحالة الانتخابية داخل البنى الحزبية.

مقابل القائمة الانتخابية الجاهزة والسلبيات التي تفرزها، يطرح تساؤل بديهي مفاده ما الإجراء الأفضل لمعالجة السلبيات السابقة، كيف يمكن أن يصل المرشح الأفضل على المستوى الوطني؟ وهنا تأتي معادلة جديدة في العملية الانتخابية قائمة على أساس التحول في دور الحزب من متبن لقائمة انتخابية محددة إلى داعم اجتماعي للمرشح الأفضل، على ألا يُفهم من المرشح الأفضل هنا أنه المرشح الأكفأ، فالكفاءة يجب ألا تطغى على العدالة في التمثيل مثلاً، علماً أن الرغبة الحزبية المثالية تكمن في تكامل معياري الكفاءة والعدالة.

وكما أن لآلية «القائمة الانتخابية الجاهزة» سلبياتها، فإن لآلية «الدعم الاجتماعي للمرشح الأفضل» سلبياتها أيضاً، فقد ينتج عنها صراع بين مرشح بعثي ومرشح بعثي آخر، ما يؤدي إلى تشتيت الأصوات الانتخابية للحزب، والسماح للمنافسين من قوى سياسية أخرى استغلال الفرص والحصول على غالبية الأصوات، وبالتالي الفوز في الانتخابات، فنحن اليوم أمام أهم متغير في الحياة السياسية السورية، وهو المتغير الدستوري، الذي ينص على التعددية السياسية، والتعددية تعني المنافسة على الحاضنة الاجتماعية، هذه المنافسة تقتضي بنى حزبية قوية، وبالتالي المهمة الأساسية أمام «البعث» اليوم ليس البنية بحد ذاتها، بل كيف أفعّل هذه البنية، فالمجتمع يجب أن يكون قوياً كي يواجه استحقاقاته بما ينعكس على تطوره ورفاهه، وهنا لا بد من البحث في سلبياتنا، وتحديد أخطائنا، وتعلم كيف نبني عليها.

إن أولى المهام في هذه السياق، تحديد إحداثيات مجتمعنا في المرحلة الراهنة، فالتغيرات الاجتماعية هي محصلة للتغيرات السياسية والاقتصادية، لذلك يجب أن يكون هدفنا تحقيق استقرار اجتماعي وأن نحافظ على الطبقة الوسطى باعتبارها الحامل السياسي والاقتصادي والثقافي للمجتمع، وهذا يقتضي من «البعث» أن يكون قائداً فعلياً في الدولة والمجتمع لا منفعلاً مع المجتمع، مع ضرورة تحقيق التوافق بين آلياتنا الحزبية ووجهة نظر المجتمع، وأن نطرح عناوين واضحة على القواعد مع مراعاة هرمية العناوين، ولعل أهم عنوان في المرحلة الحالية هو الثقة بالحزب، وبناء الثقة به تتم انطلاقاً من وطنيته، وهذا سينتج عنه تلقائياً مشاركة واسعة.

إن نقل الأجيال الشابة إلى الوجه الآخر للمشاركة، المتمثل بالمشاركة الفاعلة في انتخاب الأفضل على المستوى الوطني، يتطلب أولاً تعليم الإنسان أن يكون فاعلاً، وفاعليته يجب أن تنطلق من الحوار، فمشكلة الحزب أنه لم يكن لديه حوار على مدى العقود الماضية، وهذا تسبب في ابتعاد القواعد ما أدى لنشوء فجوة كبيرة لكن ليست مستحيلة، فجوة بين المنطلقات النظرية للحزب والواقع، يتطلب ردمها، العمل على ترسيخ المفهوم الحضاري المنفتح، الذي يهدف إلى تحقيق التكامل بين الانتماءات المختلفة لتكوينات المجتمع السوري.

هنا لا بد من التأكيد على أن المنظور الجماهيري، مثّل سابقاً أداة الحزب الأساسية لاستيعاب مختلف الطبقات الاجتماعية السورية، والجماهير في مفهوم الحزب تشمل كل الفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في التغيير، لذلك فإن الأمر هنا لا يقتصر على البنية الاقتصادية للمجتمع كمحدد وحيد في تحديد العلاقة بالمنهج، وإنما يجب أن يشمل بنى أخرى لها تعبيرها في المجتمع السوري، ومن ثم فإن مفهوم الجماهير يقتضي استيعاب تكوينات المجتمع كلها، بما معناه أن يكون لفظ الجماهير يتضمن البعد الأيديولوجي للتغيير في حد ذاته، بل يتعداه إلى المصلحة في التطوير من أجل ترسيخ وتعزيز كل إيجابيات الواقع.

وبما أن الحزب خرج من دائرة المجتمع المدني بحيازته للسلطة، وهذا ما قد يكون أبعده عن الاهتمام المباشر بالجماهير، لذلك فإنه اليوم بحاجة إلى استعادة صفته المدنية، حيث يمايز بين «البعث» صاحب السلطة و«البعث» المدني، فيعود لتمثيل حقوق ومصالح الفقراء، ومنافس أحياناً وشريك أحياناً أخرى، على الساحة الاقتصادية السورية، وحاضنٍ للنُّخب الفكرية والعلمية، عبر خطوات انتقالية مدروسة بالتشاركية مع القوى المجتمعية الأخرى، ويفترض أن تتحول قيادة الحزب إلى لعب دور الرعاية والحماية على خط إعادة توحيد سورية والمجتمع السوري، وتفعيل البنى المؤسسية الحزبية والتشريعية على وجه الخصوص، والمتمثلة بمجلس الشعب والجبهة الوطنية التقدمية.

وهنا يجب البدء من الحلقة الأصغر في الهرم البنيوي للحزب، الحلقة ومن بعدها الفرقة الحزبية، نظراً لصلتها المباشرة بالجماهير، بحيث نعيد للحزب دوره الفاعل في الحياة العامة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وقد يكون ذلك من خلال خلق مساري عمل، الأول: الحزب القائد للدولة، والثاني: الحزب القائد للمجتمع، أي أن ينافس الحزب ذاته بغية الخروج بأفضل ما لديه خدمة للجماهير والوطن.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن