ما تقوله جولات التفاوض المتقطعة، لكن بانتظام، والرامية للوصول إلى اتفاق من نوع ما بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية، أن كلا الطرفين لا يريدان إعلان فشلها، بل إن الأطراف التي تلعب دور الوساطة في تلك الجولات لا تريد هي الأخرى الوصول إلى تلك النقطة الحرجة التي يتعاطى بها كل من الوسطاء، وفق اعتبارات وحسابات خاصة به، لكن ما يقوله التفاوض المتقطع، أيضاً بانتظام، أشياء أخرى من نوع أن أوراق الضغط التي يستخدمها هؤلاء، خصوصاً الولايات المتحدة، في مواجهة حكومة «كابينيت الحرب» ورئيسها بنيامين نتنياهو ليست كافية للدفع بها، وبهذا الأخير، نحو قرار إيقاف الحرب والبحث عن تسويات لا بديل من الوصول إليها بعدما تأكد أن «القوة» لن تكون كفيلة بتحرير الرهائن مهما بلغت شدة هذه الأخيرة التدميرية، أو مهما بلغ فتكها بالأرض والبشر والحجر، الأمر الذي تؤكده تأرجح التقارير الصادرة عن غرف التفاوض والتي بعضها يشير إلى تقدم من نوع ما، ليشير بعضها الآخر إلى تراجع بسبب هذا التفصيل أو ذاك، والراجح هنا أن نتنياهو يعمل على «لعبة» التفاصيل سبيلاً إلى تأخير عقد الصفقة، انطلاقاً من يقين راسخ لديه بوجود أكلاف عالية السقوف يمكن أن تنجم عن توقف القتال، والأكلاف عينها لن تطول «الشخصي» الذي تشير إليه تقارير كمعوق كبير يقف بوجه «الصفقة»، بل ستطول أيضاً تركيبة وبنيان الكيان الذي وجد نفسه للمرة الأولى أمام الامتحان العسير، والمؤكد أن عمليات «تصحيح الأوراق» التي ستحدث فور انتهاء الوقت، ستكون كاشفة لنواح عدة، ولذا فإن استمرار النار كفيل بتأجيل كل ذلك ريثما تتكشف بعض المعطيات، التي تشكل الداخلية منها، الشق الأهم الذي يريد له «منظرو» الكيان أن يتكشف.
كان ثمة رهان بدا واضحاً لدى بعض الوسطاء، ولربما كلهم، في أن تؤدي الضغوط الداخلية والخارجية على حد سواء إلى سقوط الائتلاف اليميني الفاشي بقيادة بنيامين نتنياهو، وأن هذا الأخير لن يستطيع الصمود في السلطة قياساً لاعتبارات عديدة أبرزها إخفاقه في تحقيق مراميه التي أعلنها عشية إطلاق عدوانه على غزة ما سيؤدي إلى تراجع التأييد الذي يحظى به وصولاً إلى سقوطه، ومن تلك الاعتبارات، ضغوط الخارج التي شكلت المحاكم الدولية الجزء الأهم منها، لكن نتنياهو استطاع أن يبقي على ائتلافه متماسكاً عبر الدعم الأميركي الذي كان متلوناً بين ما هو معلن وبين ما هو مستتر، والراجح هو أن وضع المعارضة الإسرائيلية الهش، والذي راح يزداد هشاشة عبر التراصفات التي راحت تشهدها بعض مكونات المعارضة باتجاه مواقف نتنياهو على خلفية الحرب، كان قد ساعد بدرجة كبيرة هذا الأخير في مهمته آنفة الذكر، ولذا فإن تلك الرهانات كانت قد ساعدت في تعميق جراح غزة، وفي استمرار النكبة الواقعة على شعبها التي باتت تفوق تلك الحاصلة عليه عام 1948.
يرى نتنياهو أن أوراق الضغط المطبقة عليه ليست كافية لإسقاط ائتلافه، بل وليست قادرة على فرض تغييرات على موقفه التفاوضي، وما يراه أيضاً أن مجمل المعطيات الراهنة تسمح بإثخان الجراح في الجسد الفلسطيني المنهك والذي تركت جراحه تنزف إلا من حالات إسناد شعبية كانت غير قادرة على أداء مهامها كما يجب لاعتبارات تتعلق بمواقف الأنظمة والدول، مع الإشارة هنا إلى حقيقة يجب أن تخرج للسطح بطريقة صارخة ومفادها أن الحكومة السورية لم تكن في وضعية قادرة على تقديم أي إسناد عسكري مباشر لفصائل المقاومة الفلسطينية لاعتبارات قد يكون العرض لها نوعاً من التكرار غير المفيد، فوضع البلاد على كل الصعد من الصعب فيه على أي قيادة سياسية اتخاذ مواقف مغايرة للتي اتخذت والتي أكدت دمشق من خلالها على حق الشعب الفلسطيني في سلوك كل الطرق التي يراها ناجعة لإقامة دولته على كامل ترابه الوطني.
قد يتبلور قبيل حلول شهر رمضان اتفاق جزئي قوامه وقف إطلاق نار مؤقت مع تبادل لعديد من الأسرى بين الطرفين، حيث لا تزال الأرقام هنا قيد النقاشات التي تشهدها الغرف المغلقة التي يجهد الوسطاء من خلالها لإقناع حركة حماس بأن الوصول إلى اتفاق كهذا سيكون ناجعاً خصوصاً أنه لا يسحب «ورقة» الأسرى كاملة منها، وإن كان بالتأكيد سيقلل من فاعليتها، والراجح أن «حكومة الحرب» تبدي استعداداً، أو هي باتت متهيئة أكثر، لعقد صفقة من هذا النوع في الوقت الذي بات فيه شهر رمضان على الأبواب، حيث الخشية الإسرائيلية هنا تلحظ إمكان أن تؤدي حالة التضييق على ممارسة الشعائر إلى انفجارات في الضفة الغربية، وعندها ستصبح الساحتان ساحة واحدة، ويصبح «الشارعان» في حال من التلاصق الذي عجزت القيادات عن تحقيقه، بل إن رهاناً من هذا النوع بات أقرب للآمال بعد البيان الصادر في موسكو، يوم الجمعة الماضي، في أعقاب اللقاء الذي ضم قوى وفصائل فلسطينية بدعوة من القيادة الروسية التي جهدت لشق مسار قوامه وحدة الصف، وإن كان يؤخذ عليه أنه بالغ في تصوير المناخات «الإيجابية» للحوار الذي استمر ليومين متواصلين، حيث الصيغة «الإنشائية» التي جاء عليها توحي بالكثير، ما يشير إلى «دمامل» كانت حاضرة على الطاولات، والإنشاء هنا يلعب دور «حقن البوتوكس» التي تساعد في شدة البشرة وإخفاء التجاعيد.
كاتب سوري