قضايا وآراء

عصر الفوضى العالمية والدور الأميركي

| الدكتور قحطان السيوفي

هل أصبح العالم اليوم على أعتاب حقبة من الفوضى العالمية؟ فوضى سياسية وفوضى أخلاقية وفوضى اجتماعية، وفوضى بيئية؟

الواضح أن آليات المؤسسات كافة قد فشلت في ردع النزاعات والحروب، وفي تأمين أدنى قدر من الأمن الغذائي المستدام، وكأن كل شيء خرج عن السيطرة، فالحرب الأوكرانية تستمر وقد شارفت على عامها الرابع، في حين تُهدد حرب الكيان الصهيوني على غزة المدعومة من الإدارة الأميركية، بالتمدد لتصبح طوفاناً إقليمياً.

في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عرض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أولوياته لعام 2024، مُحذراً، من أن العالم يدخل «حقبة الفوضى»، مشيراً إلى الانقسامات العميقة التي يعانيها مجلس الأمن الدولي، ما جعله غير قادر على التعامل مع القضايا الملحّة على غرار الحرب الإسرائيلية على غزة.

غوتيريش تناول أمر الفوضى السياسية والصراعات العسكرية، وهو نفسه مَن تكلم صيف 2023 عن انتقال الأزمة الإيكولوجية، من مرحلة «الاحتباس الحراري» إلى حدود «عصر الغليان»، وكلاهما يعمّقان حالة الفوضى عبر العالم.

تحذيرات غوتيريش استبقت مؤتمر القمة المعنيّ بالمستقبل، تحت رعاية الأمم المتحدة، وهنا نتساءل: عن أي مستقبل يتحدثون في ضوء وصول مجلس الأمن إلى طريق مسدود نتيجة الانقسامات الجيوسياسية، مع غياب الآليات الراسخة في إدارة العلاقات بين القوى العظمى، رغم نشوء عالم متعدد الأقطاب؟

إن كارثية عصر الفوضى العالمية العشوائية ومسافاتها، جعلت دروب التاريخ شبيهة بكرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل سقوطاً إلى القاع ومن ثمّ الانفجار.

بالمقابل بيانات «تقرير التوازن العسكري»، الصادر بداية عام 2024عن «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية- IISS» في لندن، أكد وجهة نظر غوتيريش وفيه إشارات تؤكد دخول عالمنا، منذ العام 2023، حدود بيئة أمنية شديدة التقلب، مما يُنذر على الأرجح بعقد أكثر خطورة يتسم باستعمال القوة العسكرية لقتل المدنيين، وخاصة مع ارتفاع الإنفاق العسكري في العالم بنسبة 9 في المئة ليصل إلى 2200 مليار دولار، مع توقع زيادات جديدة عام 2024 على التسليح، في وقت تزداد فيه أعداد الذين يعانون المجاعة ونقص الماء.

أحد الأسئلة المهمة: مَن المسؤول عن دخول العالم عصر الفوضى الخطرة؟ ستجيب الأغلبية: إنها الولايات المتحدة الأميركية، وتؤكد ذلك إجابات العوام والنخبة في المجتمع الأميركي.

المنظّر الأميركي الأشهر للسياسات الخارجية ريتشار هاس، الذي تناول في كتابه «عالم تكتنفه الفوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام»، إشكالية الفوضى العالمية؟ قدم رؤية عن عالم تهتز فيه وضعية الولايات المتحدة، مع تبعات واستحقاقات على مناحي الحياة الدولية كافة، ويقول: «لم يعد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة قابلاً للاستمرار بعد انهيار أركانه الأساسية وأن قيادة واشنطن للعالم الجديد الأحادي القطبية، لم تَدُم أكثر من عقد ونصف العقد، أي منذ بداية التسعينيات إلى الأزمة المالية الأميركية عام 2008، وعليه فإن العالم بات يعيش بالفعل إرهاصات عصر الفوضى في شكل تهديدات وتحولات سريعة وغير متوقعة».

على عتبات عام 2024، وجّه الفيلسوف الفرنسي الشهير إدغار موران رسالة إنذار للخليقة من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، وفيها: «شهد عامنا المنتهي كراهيات، ونرى العالم بأسره وكأنه على شفا هاوية، فهل يمكننا معالجة البشر الذين يتألمون؟ إننا نعاني هذيانات قصوى، فلنحاول تفادي الأسوأ».

أميركا مارست القتل الجماعي، بداية من حرب فيتنام مروراً بحرب أفغانستان والعراق التي قلبت الموازين في الشرق الأوسط وأنتجت كتلاً من التنظيمات الإرهابية، حيث عمت الفوضى العارمة الشرق الأوسط وكانت من الأخطاء الفادحة والتاريخية للإدارات الأميركية، وأقتبس من أستاذ التاريخ في جامعة وسكنسون الأميركية، ألفريد ماكوي، قوله: «إذا كانت الولايات المتحدة تمني نفسها بأنها ستظل القطب السياسي والاقتصادي الأكبر في العالم حتى عام ألفين وخمسين؛ لتستكمل ما يوصف بالقرن الأميركي، فإن هذا لا يشكل سوى حلم كاذب لا تدعمه معطيات الواقع الراهن سواء على مستوى الواقع المحلي في أميركا نفسها أم على مستوى العالم بأسره»

من جانب آخر يلاحظ أن الصعود المستمر لروسيا والصين يجعل من الصعب استمرار الحال على ما عليه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التأثير الصيني على العالم لن ينحصر في الاقتصاد، بل سيكون سياسياً وثقافياً وعسكرياً، وقد يكون أكثر مما أثرت به أميركا طوال عهود مضت.

بالمقابل المراقبون يشيرون إلى عجز الولايات المتحدة عن تأدية دورها السابق على مستوى العالم، فهي الآن لا تقدم إلا الحروب والأزمات، ومع تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة المتوقعة، يعاني الشعب الأميركي ارتفاعات هائلة في الأسعار وفي معدلات البطالة.

أما بالنسبة للدولار الذي تعتبره الولايات المتحدة أداة من أدوات هيمنتها السياسية والاقتصادية على العالم، هناك مطالب عالمية بأن تحد البنوك المركزية في أرجاء العالم من مشترياتها من الدولار ومن سندات الخزانة الأميركية، وقد دفع هذا الأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وقف هيمنة العملة الأميركية على النظام النقدي العالمي.

إن أغلبية الشعب الأميركي غير مرتاح لموقف الإدارة الأميركية الداعم بشكل مطلق لحرب إسرائيل العدوانية على غزة، الاتحاد الأميركي الذي تأسس في 4 يوليو 1776، سيشهد انقساماً داخلياً قد يترتب عليه مشاكل مستقبلية.

إسرائيل التي تمارس الإبادة الجماعية في غزة ستصبح مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار في المنطقة، ومع تحيز الإدارة الأميركية وجنون رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو المتشبث بسلطة حاصرتها الدماء والإبادة الجماعية، سيتحول العالم بأكمله إلى فوضى لا سراج لها.

صدرت آخر دراسة عن بنك «دويتشه»، الألماني تؤكد أن العالم ينتقل الآن من عصر العولمة إلى عصر الفوضى، حيث ربط التقرير حالة الإنتاج العالمي بالمتغيرات الإيكولوجية حول العالم، وثورة التكنولوجيا والمنافسة بين الأجيال القائمة والقادمة، وواشنطن شريكة فاعلة في حالة الفوضى العالمية، وحربٌ في أوروبا لا سقف لها، والـ«ناتو» يحاول أن يتوسّع.

إسرائيل، وبدعم أميركي، مستمرة في قتل الأطفال والمدنيين في غزة، الكلام عن «عكس العولمة»، الكلام عن الحرب النووية، هذه كلّها نذر تُنبئنا بأنّنا دخلنا فعلاً عصر الفوضى العالمية بكل أبعادها وأشكالها، ولم يعد في الأفق بريق يُنذر برؤية راجحة وعقلانية، هي فوضى أصبح يحكمها التفوق العسكري، يدعمه في ذلك أباطرة المال والسلاح الذين أصبحوا، اليوم، في مواجهة بعضهم بعضاً، بعد أن أصبحت الرأسمالية في مواجهة مباشرة مع نفسها، مع كل ما يحمله ذلك من شراسة يديرها المال ويحكمها شره السلطة مع دور واضح للإدارة الأميركية في عصر الفوضى العالمية.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن