ثقافة وفن

سحر الألحاظ في شعر الألفاظ … الكلمة وليدة البيئة وتخضع لمعتقدات الشعوب والدلالة

| إسماعيل مروة

اللغة بمعناها العام، وما يمكن أن تحمله من خصوصية المعنى والأصل، وما يمكن أن يحدث عليها من طوارئ التغير الدلالي عبر الأزمنة والانتقال والاستعمال، هذا موضوع شائك وشائق، ويحتاج إلى عالم لغة متعدد اللغات، واسع الأفق، عميق المعرفة، لئلا ينحاز كما يفعل الكثيرون إلى لغاتهم، وإنما يكون انحيازه للعلم والمعرفة، وهذا الكتاب (سحر الألحاظ في شعر الألفاظ) للكاتب الدكتور ف. عبد الرحيم الصادر عن دار القلم بدمشق هو من الكتب المهمة والنادرة في موضوعها، والكاتب يستهدف فيه العامة، وإن كان قد عنون كتابه بعنوان فيه من السجع ما ظلمه، ولم يكشف عن محتواه وأهميته.

المحتوى واللغة

لفت انتباهي العنوان، فظننته كتاباً قديماً من العصور المتأخرة، وقام واحد بتحقيقه، لكنني مع تقليب صفحاته وجدته كتاباً عاماً يلزم كل واحد منا، ويحتاجه كل قارئ وكل كاتب لما فيه من تناول علمي لكلمات تشيع بين الناس ويستعملونها، وهم لا يدركون أصولها التي جاءت منها، ولا التطور الذي طرأ عليها من استخدامها، وقد جاء الكتاب بفصول محددة، ولم يتجاوز ثمانين صفحة: كلمات تعكس العادات والتقاليد/ كلمات تعكس عقائد الشعوب/ كلمات اشتقت من الأعلام/ كلمات تشير إلى ظروف نشأتها/ كلمات نشأت من خطأ/ مسارات تغير الدلالة/ كلمات أساسها الخيال/ تغير المعنى بسبب التفاؤل/ توليد الكلمات.

بلغة سهلة بسيطة بعيدة عن التقعر، وبالموازنة مع اللغات الأخرى، ومن خلال المصادر والمراجع اللغوية والتاريخية من اليونان إلى اليوم يقدم مادة فيها من الفائدة والمتعة، وإلى ذلك يشير في مقدمته:

(أقصد بشعر الألفاظ اللذة والمتعة التي يجدها الدارس عندما يكتشف ما تخفيه الكلمات من أسرار وأخبار.. ليست الكلمات مجرد ظروف للمعاني، إنما هي سجل للتاريخ ووثائق لعادات الشعوب وتقاليدهم.. اللفظ كائن متغير معناه باختلاف الزمان والمكان والظروف.

وقد أمتعني هذا الكتاب وأغنى معارفي، لذلك أردت أن أنقل شيئاً من محتواه، ليعرف القارئ الكريم أن كتب اللغة ليست كلها متخصصة، وأن من يتولى اللغة ليس ثقيلاً دوماً، وإن كانت الصورة الغالبة حقيقية من ثقل ظل وغلظة الأغلبية.

فمن الأمثلة التي تدفعنا لفهم اللغة كما أورد في أول كتابه:

الغداء أكلة الظهيرة في لغتنا المعاصرة، وفي لغة التراث الغداء أو الغدوة طعام ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس

الجيب في زمننا كيس مخيط في القميص ونحوه، أما معناه القديم فهو فتحة القميص من الأمام.

كلمات العادات والتقاليد

الإحصاء، وهو العدّ، وهذا المعنى مأخوذ من الحصى، لأنه بها يتم العدّ.

المرشح المتقدم لمنصب معناها في اللاتينية اللابس لباساً أبيض، وسمي به، لأنه في روما كان المرشح لمنصب يظهر لابساً لباساً أبيض.

عقائد الشعوب

التطيّر بمعنى التشاؤم، وهذا المعنى مبني على عادة العرب في الجاهلية، فهم كانوا يتفاءلون ويتشاءمون من طيران الطير، الأمراض الزهرية منسوبة إلى كوكب الزهرة، وهو عند اللاتين إلهة الحب والجمال، ويرونها السبب في وقوع الناس في حب من يحبونهم.

الهاتف عند العرب مقابل التلفون، لأنها مبنية على اعتقاد العرب أن الهاتف هو صوت يسمع ولا يرى صاحبه.

اشتقت من الأعلام

موكا الكلمة الإنكليزية لأجود أنواع القهوة، وما هي إلا تحريف بسيط لاسم ميناء اليمن المخا الذي كانت القهوة تصدر منه.

البقدونس نوع من الخضر، ويقال له مقدونس، هو الكرفس المقدوني المنسوب إلى مقدونيا.

الورد الجوري، أو الجوري نسبة إلى مدينة جور الفارسية المشهورة بالورد الفائق.

النيكوتين من اسم جان نيكوت الدبلوماسي الفرنسي الذي أدخل التبغ إلى فرنسا 1560 من البحر الكاريبي.

الكرافتة ربطة العنق مأخوذة من اسم شعب الكروات الذين أخذ الفرنسيون عنهم ربطة العنق.

كلمات وظروف نشأتها

التمويه أي التلبيس يقال: موّه الحق أي لبسه بالباطل، مأخوذة من الماء، ويقال موّه الشيء أي طلاه، وليس في أهل الكلمة هذا المعنى.

التزويق بمعنى التحسين والتزيين، وهو لغة في الزئبق، وأهل المدينة يسمون الزئبق «الزواوق»، واكتسبت الكلمة معنى التزيين بسبب دخول الزواوق الزئبق في نوع من التذهيب، لذلك قالوا لكل مزيّن مزوّق.

القفة وهي وعاء من خوص ونحوه لحمل البضائع، وفي الحقيقة هي القرعة اليابسة، وسمي الزبيل هذه التسمية لشبهه بالقرعة اليابسة.

كلمات نشأت عن خطأ

هستيريا مرض عصبي، أصلها يوناني مشتقة من الرحم، بسبب اعتقاد الناس قديماً أن هذا المرض ناتج عن اختلال في وظائف الرحم، فبقي الاسم.

الملاريا كلمة إيطالية مختصرة من الهواء الفاسد، للاعتقاد الخاطئ أن هذا المرض ينتج عن التبخرات المتصاعدة من المستنقعات.

تغيّر الدلالة

الاستحمام هو الاغتسال بالماء الحميم الحار ثم استعمل بمعنى الاغتسال مطلقاً.

المأتم، اجتماع الناس في الخير والشر، ثم خصص لاجتماع النساء في الحزن، ثم صار للناس عامة.

كلمات أساسها الخيال

التعشيق، العشق هو فرط الحب، والاستخدام مبني على الخيال عند النجارين، وفي ربط العجل بالمحرك.

بسبب التفاؤل

الفوز: النجاة والظفر، وسميت الفلاة مفازة من باب التفاؤل وهي المهلكة.

توليد الكلمات

تمذهب، تمنطق، تزندق من المذهب والمنطق والزندقة.

القذائف الما- برية أي تطلق من الماء إلى البر.

أفغنة، أمركة، فرْنَسة.. نسبة للبلدان.

درس في البحث اللغوي

عرفت أن المؤلف ليس عربياً، ولكنه ابن الثقافة العربية والإسلامية، وما قدمه في أبحاثه يمثل درساً للباحثين في تتبع المعرفة، وقد رأيت مثل هذه المحاولات من جهابذتنا، حيث يردون كل شيء للغة العربية دون دليل كما يفعل الكاتب، فمرة أحدهم، أذكرها من قبيل الطرفة وقد حدثت، قال: كلمة (غرسون) عربية لأنها مكونة من مقطعين هما جرّ الصحون، وهي مهنة حامل هذا اللفظ!!

فلنتعلم ولنتابع بحب ومعرفة وعمق، وليس بوظيفية مقيتة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن