قضايا وآراء

«موسكو 4»: فرصة إن صدقت النيات

| عبد المنعم علي عيسى

لم تكن دعوة «معهد الاستشراق» بموسكو التي وجهها لعدد من الفصائل الفلسطينية للتحاور يومي الخميس والجمعة الماضيين في معقله، دعوة جديدة، إذ لطالما سبقتها دعوات عدة قامت بها أطراف عديدة من بينها مصر، التي رعت لمرات عدة حواراً بين حركة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن بينها قطر التي دعا أميرها، شهر كانون الثاني المنصرم، الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي اشترط، لتلبية الدعوة، عدم الالتقاء بأي قيادي من حماس، وزاد على ذلك بالقول إن اللقاء بحماس مشروط بإلغاء مفاعيل «أحداث 2006» التي قادت إلى سيطرة الحركة على كامل قطاع غزة في هذا العام الأخير، والعودة بالوضع في غزة إلى ما كان عليه قبيل تلك الأحداث، أيضاً كانت هناك مبادرة من القيادة السورية التي وجهت بدورها دعوة لقيام حوار فلسطيني في دمشق، بالتزامن تقريباً مع الدعوة القطرية، إلا أن الرد الفلسطيني على الدعوة التي وجهتها الخارجية السورية للسفارة الفلسطينية ومن ثم جرى نقلها للرئيس عباس، كان يقول باستعداد الأخير لإرسال وفد من اللجنة المركزية لحركة فتح للقاء بالقيادة السورية، لكن اللقاء مع قادة فصائل فلسطينية أخرى (الإشارة هنا إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي) فهو أمر غير مفيد وغير وارد الحدوث في الوقت الراهن وفقاً للرد الفلسطيني الرسمي على الدعوة السورية.

لا شك أن الدعوة الروسية الأخيرة كانت قد جبت تجارب القاهرة والدوحة ودمشق، وأن القيمين عليها أخذوا بعين الاعتبار النتائج التي آلت إليها هذه الأخيرة التي تقول حصيلتها إنها شبه قريبة من الصفر، ومع ذلك قررت موسكو الخوض في تجربة لا وجود لمعطيات تنذر بإمكان تحقيق النجاح في المهمة التي راح يخيط نسجها فيتالي نعومكن، مدير «معهد الاستشراق» بموسكو، مدعوماً من دوائر الخارجية الروسية التي كانت ترابط في «غرف جانبية» لتلك التي كان الفلسطينيون يتحاورون فيها، لكن الراجح أن موسكو انطلقت في «مغامرتها» تلك من اعتبارات عدة، كانت تراهن على تفعيلها لتحقيق نجاح من نوع ما، أولى تلك الاعتبارات هو الدور المتوازن الذي لعبته موسكو في مرحلتيها السوفييتية والروسية تجاه القضية الفلسطينية، وهي من خلاله استطاعت كسب ثقة الكثيرين على الساحة الفلسطينية ممن تناقضت مواقفهم كثيراً ما بعد أوسلو 1993، ومنها المرحلة العصيبة التي تمر بها القضية الفلسطينية في أعقاب الحرب الدائرة على غزة والتي ستشكل نتائجها التي ستفضي إليها منعرجاً كبيراً في مسارها من دون شك، أما كيف يمكن حصد المكاسب مما تحقق، وهو بالتأكيد كبير رغم كل المآسي والآلام، فهذا يتطلب، وفق الرؤية الروسية، تلاقيات ولو عند الحدود الدنيا بين الشركاء في الوطن والمصير، والمؤكد أن في الأمر الأخير ما يدعو إليه، إذ لطالما كان من الصعب تجيير «نتائج الطوفان» ووضعها في قوالب خادمة للقضية من دون التوافق بين الفصائل المؤمنة على الثوابت التي تقوم عليها هذه الأخيرة، ولا يكفي هنا أن يكون الفعل عند الحدود الدنيا، بل يجب أن يتعداه ليطول الرؤى حول السبل الكفيلة بتحقيق الهدف الذي يمثل نقطة تلاق أكيدة بين تلك الفصائل.

يمثل البيان الصادر في أعقاب اجتماع الفصائل الفلسطينية أرضية من النوع الذي يمكن البناء عليه إذا ما صدقت النيات على الرغم من أنه جاء «إنشائياً» و«عاماً»، ولربما كان ذلك مبرراً لجهة تجنب السير في الطرقات المملوءة بالألغام، لكن ما يعاب هنا على المحاولة أنها تجنبت، ولربما بقصد، الاستناد إلى مخرجات الحوار السابقة من نوع تلك التي أعلن عنها في حوار القاهرة 2021، التي أفضت إلى التوافق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال فترة وجيزة، وعلى ترميم منظمة التحرير الفلسطينية على أن يتضمن الفعل العمل على ضم باقي الفصائل إليها، والإشارة هنا إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ومثل توافقات كهذه لو اعتمدت كنقطة بداية في «موسكو 4» لجاءت النتائج أجدى بما لا يقاس مما جاءت عليه.

ما تؤكده الأحداث الحاصلة منذ سنوات، التي ترسخت عبر حروب غزة الست، أن السلطة الفلسطينية لم تعد قادرة، وفق هيكليتها الراهنة، على مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه القضية الفلسطينية من دون التنسيق والتحالف مع باقي الفصائل العاملة خارج إطارها، ويزيد من فعل التأكيد واقع عربي يبدو شديد الوهن، وهو منقسم تجاه السبل والوسائل الكفيلة بإيجاد حل عادل لقضية باتت تمثل البقية الباقية من الاستعمار القديم الذي تلاشى نموذجه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن المؤكد أن الأحداث الراهنة، «طوفان الأقصى»، تمثل فرصة قد لا تتكرر خلال وقت قريب لإيجاد تلاقيات أوسع مدى من تلك التي ذهبت إليها «موسكو 4»، وإلا فإن «الطوفان» القادم قد يجتاح الكل ومعه البنى والهياكل القيادية لمنظمات لعبت دوراً تاريخياً في قيادة العمل الفلسطيني جنباً إلى جنب مع أخرى لعبت دوراً لا يزال حديثاً قياساً للأولى.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن