من المؤكد أن المتابع لسياسة وأفعال الولايات المتحدة الأميركية، لن يجد وصفا لها في قاموس الدبلوماسية السياسية، وخاصة لما يجري في غزة، سوى وصف النفاق والكذب، أو تشبيه الدبلوماسي والسياسي الأميركي بالذئب الذي يبكي على راع بعد أن افترس له جميع أغنامه.
بضوء أخضر ودعم أميركي، وبقنابل وصواريخ ورصاص أميركي، انتهك الكيان الصهيوني جميع القوانين الوضعية والإنسانية في عدوانه على غزة، قتل حتى اليوم الـ151 من عمر العدوان، ما يقارب 31 ألف فلسطيني، وارتكب مجازر إبادة يندى لها جبين الإنسانية، وجعل المنطقة برمتها أثراً بعد عين، بعد كل ذلك أعربت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس خلال محادثات أجرتها مع عضو حكومة الحرب الإسرائيلية بيني غانتس، عن «قلق بالغ» إزاء الوضع الذي يواجهه المدنيون في غزة، وذلك بعد أن نصحت إدارتها بإظهار المزيد من التعاطف مع «القتلى» المدنيين هناك!
لا نستغرب الرياء الأميركي، لطالما كانت ازدواجية المعايير أبرز صفات السياسة الأميركية، والتي تجلت بشكل واضح من خلال موقفها إزاء الأوضاع في سورية، والحرب الروسية- الأوكرانية، والوضع في اليمن والعراق، وفي كل منطقة خالفتها الرأي أو وقفت في وجه مخططاتها الاستعمارية الداعمة للكيان الإسرائيلي، لتعمل وفق تلك السياسة على إظهار صورة خداعة عبر قيامها بإنزال مساعدات جواً إلى الشعب الفلسطيني في القطاع، للتخفيف من احتقان الشارع الأميركي المناهض للعدوان الإسرائيلي على غزة، ولتثير تلك المساعدات، ومدى جدية الإدارة الأميركية في مساعدة الشعب الفلسطيني تساؤلاً كبيراً: كيف لدولة تملك من الخبرة العسكرية أن تفشل في إيصال المساعدات جواً إلى هدفها، لتسقط تلك المساعدات التي ألقيت في أجواء غزّة على شاطئ مستوطنة «زيكيم» في منطقة عسقلان المحتلة، ولماذا تلجأ قوة بحجم الولايات المتحدة الأميركية إلى ذاك الأسلوب «رمي المساعدات جواً» في مناطق يسيطر عليها حليف لها وهو الكيان الإسرائيلي، وخاصة أن واشنطن تتبع ذاك الأسلوب في المناطق التي تسيطر عليها «تنظيمات إرهابية ومعادية» لا صديقة لها كما هو الحال مع إسرائيل في غزة؟
من يراقب مساعي الإدارة الأميركية على تحقيق إنجاز في مسار التفاوض بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية لجهة إيقاف الحرب في غزة، يظن للوهلة الأولى، بل يكاد يقسم على مدى حرص واشنطن على أرواح المدنيين الفلسطينيين، وارتفاع مستوى إحساسها الإنساني إزاء الأطفال والنساء، إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك، وأنه رغم استهزاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجميع طروحات واشنطن لوقف العدوان والذهاب نحو تهدئة، فإن الأخيرة تحرص للوصول إلى تهدئة، خوفاً على الكيان لا على الشعب الفلسطيني، لإدراكها ويقينها أن قدوم شهر رمضان المبارك، والأوضاع على ما هي عليه فإن ثمة جبهة ثانية سوف تشتعل في وجه الاحتلال وهي جبهة الضفة الغربية، التي تغلي حالياً بشكل متصاعد، إضافة إلى معرفتها بأن عدم تضمين التهدئة جبهة الشمال مع حزب اللـه سوف يبقي الكيان الصهيوني في دائرة الخطر وعدم الاستقرار.
كل تلك المعرفة لدى الإدارة الأميركية دفع بها إلى زيادة حراكها السياسي في المنطقة ليحط المبعوث الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين في بيروت، في محاولة جديدة للتوصل إلى إطار دبلوماسي يمنع التصعيد الكبير في جبهة الشمال، وهو ما أكده من خلال قوله: «نريد الوصول بأي ثمن إلى آلية تمنع تدحرج الأمور على الجبهة اللبنانية إلى مواجهة كبيرة، لأنه في حال حصولها فإن أحداً لا يمكنه التحكم بمسار الحرب لاحقاً»، وأوضح أن لديه «أفكاراً تتيح التوصل إلى اتفاق أمني ينتج حالة من الاطمئنان على جانبَي الحدود، بما يرضي لبنان وإسرائيل معاً».
عود على بدء، لا يمكن فهم جميع التحركات الأميركية في المنطقة، أو قراءة أفعالها إلا في سياق حرصها على أمن الكيان الصهيوني، وبأن الشعب الفلسطيني وأمنه أمور ثانوية، ونتاج لأمن الكيان، كما أنه لا يمكن تبرئة الولايات المتحدة الأميركية من دم الشعب الفلسطيني، وبأنها شريك أصيل للكيان في جرائمه ضد الفلسطينيين، وبأن إسقاط واشنطن بضعاً من الوجبات الغذائية على غزة، لن تشفي جراح آلاف المصابين أو تعيد من استشهد، أو تبلسم جراح من ثكل بفعل إسقاط إسرائيل آلاف الأطنان من المتفجرات الأميركية عليهم.