بنت الجيران!
| عصام داري
حين يصبح الكرْمُ حطباً، نتذكر العنب، وعندما تميل الشمس نحو المغيب عازمة الأفول، تعود ذكريات الطفولة، وتنتصب أمام أعيننا ملاعب الصبا، ويشدُّنا الحنينُ إلى تلك الأيام التي كنّا نحن أنفسنا، ولكن في طور البراءة، والزمن البكر، والعواطف النابعة من نفوس ما فارقت الطهر بعد.
حين يتراكم الثلج فوق المروج والسهول والجبال، وفي داخلنا، يطيب لنا أن نشعل الذاكرة على أيام كان الصيف فيها يعني الارتماء في أحضان الطبيعة، وكتابة أسماء العشاق على جذوع الشجر، والسهر حتى ساعات الفجر الأولى بانتظار صبية قد تطل من نافذتها، أو لا تطل، وهي تومئ بتلويحة، وابتسامة، معلنة لنا أن وقت النوم قد حان، لكننا كنا لا ننام ونرسم صوراً مبهجة عن لقاء قريب.
لا يمكن أن يغفل شريط الذكريات «بنت الجيران» التي كانت مشروع حبيبة وخطيبة وربما زوجة، في وقت كنا نجهل فيه المعنى الحقيقي للزواج.
في تلك المرحلة العمرية، كنا نخترع المسببات لرؤية بنت الجيران، فنزعم مثلاً أننا نسينا كتاب التاريخ في المدرسة، نذهب إلى الجارة ونستأذنها بالحديث مع ابنتها بغرض استعارة الكتاب، بعد لحظة، تطل ليلى بنت الجيران، تبتسم وتسأل بخبث طفولي: واليوم أي كتاب نسيت في المدرسة؟.
تحمر الوجنتان، ونقول: كتاب التاريخ، ويا له من تاريخ يسجل بدايات أناس كثيرين، منهم من صار من الأعلام المشهورين، ومنهم من جاء ورحل من دون أن يترك أثراً، ولم يبصم في حياته بصمة تذكر الناس به، وأظن أن أقرب الناس إليه نسي أمره وكأنه لم يكن.
تحضر ليلى الكتاب، تعطينا إياه ببطء كي يطول اللقاء، نتعمّد لمس الأنامل، ونتجرأ قليلاً فنتشبث باليد، أو نتجرأ أكثر، فنخطف قبلة سريعة من وجنتها المتوردة، ويزيدها حمرة الخجل تورداً، فتتحول إلى نار تكاد تحرقنا.
لا يعرف معنى لمس أنامل الحبيبة إلا من عاش في زماننا البكر، ولمسة اليدين حينها كانت تعادل، أشهراً من العلاقات الحميمة في الغرب حينذاك، أو عندنا في الوقت الراهن.
نعود إلى البيت وكلنا لهفة لمعرفة الكنز الذي تركته بنت الجيران في كتاب التاريخ، والكنز قد يكون وردة مجففة، أو كلمات تحمل معاني الحب والعشق والهيام، أو أن تضع خطوطاً تحت كلمات محددة، فإذا جمعناها إلى بعضها تصبح جملة حب، أو موعداً في آخر النهار قرب الجدول البعيد، فتسكننا الفرحة، وتخطف النوم من أعيننا.
في الموعد المحدد، يحضر الفتى، وينتظر على أحر من الجمر، وبنت الجيران تتأخر عن سابق إصرار، وعندما تجمعهما شجرة الصفصاف العجوز، يهرب الكلام، وتتذكر أغنية فيروز:
«كنّا نراسل بالوما ونقول شرح يطول، ولما اجتمعنا لحالنا نسينا شو بدنا نقول، لشو الحكي، طالل علينا قمر»!.
وشرح تلك الأيام يطول، وربما أحتاج إلى مجلد أسرد فيه ذكريات تلك الأيام، وهي ليست ذكرياتي وحدي، إنها ذكريات جيل كامل عرف الحب الحقيقي حتى في بداياته الأولى في سن المراهقة، زمن الخير و«العيش الهني»، والتلاحم الأسري والمجتمعي، وكل القيم التي نكاد نقول إنها انقرضت في زمن الرعب والخوف والتوحش… والآتي أغرب وأخطر وأكثر بشاعة.