قضايا وآراء

بكين– واشنطن تضارب وصراع متزايد في السياسات والأولويات

| د. قحطان السيوفي

إن التوترات بين الولايات المتحدة والصين نتيجة حتمية للخلافات الصارخة بين البلدين وتضارب وصراع متزايد في السياسات والأولويات.

اقتصاد السوق في الولايات المتحدة رأسمالي، على حين تحكم الحكومة الصينية قبضتها على الاقتصاد المنفتح على العالم.

مع أن الولايات المتحدة تظل الدولة الأقوى في العالم، فإن قوة الصين الاقتصادية والجيوسياسية المتنامية تهدد الهيمنة الأميركية.

العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والصين تحكمها المصالح الاقتصادية، وتشهد مداً وجزراً، والوضع يستمر متوتراً بين الدولتين ومؤخراً اتهمت وزارة العدل الأميركية، مهندس برمجيات صيني، بدعوى سرقة أكثر من 500 ملف سري تحتوي على أسرار تجارية تتعلق بالذكاء الاصطناعي.

ترتكز الاستراتيجية الأميركية الحالية على سياسات صناعية تحظى فيها التكنولوجيات الجديدة وأنشطة التصنيع المتقدمة بالدعم، ويعاني المنتجون الأجانب من التمييز، وتخضع استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة لتدقيق شديد، وبموجب مبدأ «سياج مرتفع حول ساحة صغيرة»، وتحاول الولايات المتحدة تقييد قدرة الصين على الوصول إلى التكنولوجيات البالغة الأهمية للأمن القومي، بالمقابل أفادت السياسات الصناعية الصينية، الشركاء التجاريين، عن طريق توسيع نطاق السوق الصينية، وخفض أسعار مصادر الطاقة المتجددة.

هذه السياسات والأولويات رافقها صراع متزايد العمق بين الولايات المتحدة والصين، مع عدم وجود القواعد التي تحكم العلاقة بينهما.

الولايات المتحدة تنتقد الصين بدعوى أنها تنتهج سياسات تجارية وحمائية مُدعية أنها تنتهك قواعد النظام الدولي «الليبرالي»، على حين يتهم صانعو السياسات في الصين الولايات المتحدة بتخليها عن مبادئ العولمة وشن حرب اقتصادية على الصين، والمفارقة أن الصين وضعت ستاراً على نافذتها المفتوحة، وتضع الولايات المتحدة سياجاً عالياً حول ساحة صغيرة.

غالبا ما تعرف الولايات المتحدة أمنها القومي بمصطلحات ومزاعم مبالغ بها وستستمر الولايات المتحدة في وضع مخاوفها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتلك المتعلقة بالأمن القومي في المقام الأول، ولكن الصين لن تتخلى عن نموذجها الاقتصادي الذي تقوده الدولة.

عمليا، أميركا انتهجت سياسات اقتصادية وأمنية تذكرنا بإستراتيجية الصين التي دامت لعقود من الزمن، والتي كانت تتمثل في إعطاء الأولوية لقوة الاقتصاد الوطني والتجديد على حساب متطلبات الاقتصاد العالمي «الليبرالي» المنفتح.

التوترات في العلاقات الثنائية تتضاعف، بالمقابل، الصين تحولت نحو الأسواق وبعد 1978 حررت اقتصادها بدرجة كبيرة، إلا أن سياسات الحزب الشيوعي الصيني أظهرت أكثر من مجرد السعي نحو تحقيق النمو الاقتصادي.

لقد كانت جزءاً من مشروع وطني للتجديد يهدف إلى إعادة تأسيس الصين لتحويلها إلى قوة كبرى؛ وشاركت الصين في لعبة العولمة وفقاً لقواعدها الخاصة، بحماية صناعاتها الخاصة والترويج لها، على حين كانت تستفيد من الأسواق الخارجية ودعمت الدولة الصناعات الاستراتيجية، سواء من وجهة نظر تجارية أم أمنية وطنية.

أحد صانعي السياسات الصينيين تحدث عن هذه الإستراتيجية قائلاً: إنها تشبه «فتح النافذة لكن مع وضع ستار عليها»، إذ سيحصل الاقتصاد الصيني على الهواء النقي، أي التكنولوجيات الخارجية والقدرة على الوصول إلى الأسواق العالمية والمدخلات الحيوية، ولكنه سوف يمنع دخول العناصر الضارة مثل تدفقات رأس المال القصيرة الأجل المزعزعة للاستقرار، أو المنافسة المفرطة أو القيود المفروضة على قدرات الحكومة الصينية على إدارة السياسة الصناعية.

لقد كان النمو الاقتصادي الهائل الذي حققته الصين في النهاية، نعمة عظيمة للاقتصاد العالمي، وأسهمت سياسات الصين الصناعية الخضراء في التحول العالمي إلى الطاقة المتجددة، عن طريق خفض أسعار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

ومن الطبيعي أن تشتكي بعض الدول الأخرى، وخاصة التوسع السريع للصادرات الصينية، أو ما يسمى بـ«صدمة الصين»، الذي أحدث ضرراً اقتصادياً واجتماعياً في بعض مجتمعات التصنيع، والمناطق المتخلفة في الاقتصادات الغربية، ما أوجد، في نهاية المطاف، أرضاً خصبة لصعود الشعبويين، مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.

ولكن ما دامت سياسات الاقتصادات المتقدمة تقوم على منطق استهلاكي وأصولية السوق، فإن هذه التأثيرات لم تتسبب في ضغوط هائلة على العلاقات مع الصين بالنسبة للعولمة المفرطة، من خلال صعود المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، وإيلاء أولوية أعلى للمخاوف الاجتماعية والاقتصادية المحلية والمتعلقة بالصحة العامة والبيئة.

من بين الاحتمالات، تبني الولايات المتحدة أو الصين نظرة توسعية أكثر مما ينبغي فيما يتعلق باحتياجاتها الأمنية، سعيا إلى تحقيق التفوق العالمي، في حالة الولايات المتحدة، أو الهيمنة الإقليمية في حالة الصين، وستكون النتيجة فك الارتباط الاقتصادي الكبير، مع التعامل مع التجارة والاستثمار باعتبارهما لعبة لا تخدم أي مصالح أحادية الجانب.

قالت عالمة السياسة إليزابيث ثوربون من جامعة نيو ساوث ويلز: كان صناع السياسات ذوو العقلية التنموية «ينظرون إلى القدرة التصنيعية المحلية، والاستقلال التكنولوجي، والقدرة التنافسية التصديرية باعتبارها الأسس الحيوية للشرعية السياسية المحلية، والأمن القومي»، وهي تقصد الصين التي أنقذ نموها الاقتصادي السريع، مئات الملايين من البشر من الفقر المدقع، ورفع بعضهم إلى مرتبة الاقتصادات المتقدمة في أقل من جيلين.

ولم تصبح الصين قوة اقتصادية فحسب، بل أصبحت المنافس الجيوسياسي الرئيس للغرب، ومن المؤكد أن التوسع السريع في صادرات الصين صنع بعض الصعوبات المهمة بالنسبة للاقتصادات المتقدمة، فقد أدت «صدمة الصين» إلى خسارة الوظائف على المدى الطويل في المناطق الأكثر تعرضا للمنافسة من جانب الواردات الصينية، وبالتالي زيادة الدعم السياسي للشعبويين في كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، لكن الحكومات الغربية، تتحمل مسؤولية ذلك لأنها فشلت في إدارة التجارة مع الصين على النحو اللائق.

وبينما كانت الصين تحقق أداء تصديرياً قوياً إلى حد غير عادي، كانت هذه الحكومات تتشبث بقوة بالليبرالية الاقتصادية.

الولايات المتحدة تتصرف بالبلطجة، بفرض تفضيلاتها السياسية على الآخرين وسعيها إلى تقويض التطور التكنولوجي لدى منافسيها، وهي تلحق ضرراً كبيراً ببقية العالم، ولن يظل الاقتصاد الأميركي مرنا في مواجهة الانقسامات السياسية الداخلية والشكوك الجيوسياسية في مختلف أنحاء العالم وهو يواجه تحديات هائلة.

لقد قدمت الولايات المتحدة في 2024، ميزانية أسرية أضعف، تميزت بانخفاض المدخرات وارتفاع مستويات الديون، وهذا قلل من الفعالية المستقبلية للإنفاق الاستهلاكي كمحرك مباشر وغير مباشر للنمو، وتتفاقم هذه التحديات نتيجة الشكوك المحلية والجيوسياسية، وأصبح احتمال التصعيد في الشرق الأوسط كبيراً مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة المدعومة من أميركا وزيادة المعاناة الإنسانية للمدنيين في غزة.

على الصعيد السياسي تبقى مسألة تايوان مصدراً لتأجيج الصراع بين الصين والولايات المتحدة، وجاء ذلك واضحاً في تحذير وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في مؤتمر صحفي على هامش مؤتمر الشعب الوطني في بكين، وقال: إن الذين يدعمون استقلال تايوان سوف يحترقون للعبهم بالنار وسيذوقون ثمرة أعمالهم المريرة.

وتبقى العلاقات الصينية الأميركية تشهد تضاربا وصراعا متزايداً في السياسات والأولويات.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن