قضايا وآراء

رمضان غزة.. صوم الجياع

| محمد نادر العمري

يحل شهر رمضان المبارك على أهالي الأراضي المحتلة عموماً وقطاع غزة خصوصاً في ظل ظروف وأوضاع معيشية وحياتية وإنسانية لم تشهدها فلسطين منذ نكبة عام 1948 حتى يومنا هذا، حيث أمسى أكثر من 85 بالمئة من أهالي القطاع نازحين عن بيوتهم التي تهدمت بشكل كامل أو جزئي، والبنى التحتية شُلت بشكل كامل تقريباً، ومقومات الحياة من كهرباء وصحة وغذاء وماء أصبحت معدومة، والأوبئة بأنواعها تجتاح القطاع وتصيب مواطنيه، وأسواقها اضمحلت معالمها، ومساجدها مهدمة، وأرقام الشهداء والجرحى والمفقودين مازالت في تسارع عمودي، وبهجة هذا العام غائبة تماماً حتى إنه بات في مقدورنا أن نقول إن غزة بدأت صومها المجحف منذ نصف عام تقريباً.

هذا الواقع المأساوي بكل معالمه الملموسة وغير الملموسة، يؤكد على حقيقة ما يسعى إليه الكيان الصهيوني وحكومته المتطرفة بتواطؤ من الكثير من الدول التي تدعي سعيها لحماية حقوق البشر والإنسانية، إذ إن المتابع لكل مراحل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023، يمكن له أن يلحظ مراحل فرض المجاعة على أهالي القطاع للوصول إلى الهدف الذي أطلق عليه وزير المالية الإسرائيلي، يتسلائيل سموتريتش: «دفع أهالي قطاع غزة للهجرة الطوعية» من خلال المواقف التالية:

– المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي تلت عملية طوفان الأقصى مباشرة وامتدت حتى بدء سريان الهدنة المؤقتة الأولى التي تم التوصل إليها نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي، إذ برزت أهم المواقف في هذه المرحلة لفرض المجاعة وفق الآتي:

أولاً- إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فرض حالة الطوارئ داخل الأراضي المحتلة لحشد كل إمكانات الكيان المحتل لشن عدوان واسع وطويل على قطاع غزة وإعلانه صراحة وقف إدخال المساعدات إلا بعد إنجاز أهدافه الثلاثة.

ثانياً- مسارعة معظم أركان الكيان الحكومي المحتل لإطلاق تصريحات متطرفة وعنصرية تعكس طبيعة السياسات العدوانية المتفق عليها داخل الحكومة المصغرة «الكابينت» أو داخل مجلس الحرب، ولعل أبرز هذه التصريحات تمثلت بما تفوه به وزير الدفاع للكيان المغتصب، يؤالف غالنت، عندما وصف أهالي القطاع بـ«الحيوانات البشرية»، داعياً المؤسسات الرسمية في إسرائيل لحرمان القطاع من كل مقومات وأشكال الحياة عندما قال: «سنفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك».

ثالثاً- الاستناد في شرعنة تصعيد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى بعض المزاعم الصهيونية المستوحاة من «التوراة» وفق زعمهم، كرسالة أرسلها نتنياهو لجنود كيانه ووزعها مكتبه على وسائل الإعلام وجاء فيها: «أذكر ما فعله بك عماليق»، وهذا المصطلح يعني «ذروة الشر في التقاليد اليهودية» واستخدمه نتنياهو أكثر من مرة من أجل تحفيز جنود قوات الاحتلال في عدوانهم على قطاع غزة، استناداً إلى ما ورد في الآية الثالثة من الفصل الخامس عشر من كتاب «صموئيل»: «اذهب واضرب العماليق وحرّموا كل ما لهم ولا تعف عنهم، بل اقتلوا على السواء الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً».
رابعاً- ما تضمنته مشاريع التهجير المعلنة سواء المذكرة المسربة في السادس عشر من تشرين الأول والصادرة عن وزارة الأمن الإسرائيلي أو الاقتراحات التي قدمها الساسة الصهاينة بمختلف تصنيفاتهم، وربطت الحياة الكريمة لأهالي غزة بطلب اللجوء الطوعي بعد فرض الحصار القسري عليه داخل وطنهم، ترافق ذلك مع محاولات صهيونية لتأليب الشارع ضد المقاومة من خلال ربط مسؤولية ما يتعرضون له من أوضاع صعبة بسلوك المقاومة وقادتها.
– المرحلة الثانية: وامتدت منذ تنفيذ مراحل اتفاق الهدنة حتى يومنا هذا، وتجلت توجهات ومواقف وسلوكيات الكيان الإسرائيلي في فرض المجاعة على قطاع غزة من خلال مروحة من المعطيات الآتية:
أولاً- عدم تطبيق بنود الاتفاق الذي نص على إدخال أكثر من 200 شاحنة يومياً إضافة لأربع شاحنات تحمل الغاز والوقود، إذ سعت إسرائيل للتملص من هذا الالتزام من خلال عرقلة مرور الشاحنات ووضع العراقيل في إجراءات التفتيش وغيرها من إجراءات كان هدفها منع دخول أي من أشكال استمرار الحياة لأهالي القطاع بالتوازي مع منع عودة أهالي الشمال إلى مناطقهم وزيادة الخناق على أكثر من 700 ألف غزاوي أخفق الكيان في دفعهم للنزوح نحو الجنوب.
ثانياً- وقف الهدنة وعدم التوصل لاتفاق إطلاق نار شامل، كان أبرز التعبيرات عن استمرار توجه الكيان لاستهداف أهالي القطاع بالقوة العسكرية إلى جانب الحصار القسري المحكم.
ثالثاً- نقل المعركة البرية من الشمال باتجاه الجنوب والوسط، الأمر الذي نجم عنه احتلال وتدمير الأراضي الزراعية وقتل الحيوانات وإغلاق الشاطئ وهو ما زاد من مؤشرات المجاعة.
رابعاً- استهداف سيارات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» قبل مسارعة الكيان لاتهام موظفي الوكالة بالمشاركة مع فصائل المقاومة الفلسطينية بعملية «طوفان الأقصى» من دون تقديم أي دليل ملموس حتى إعداد هذا المقال، الأمر الذي دفع الكثير من الدول لإيقاف تمويل الوكالة التي باتت على حافة الشلل الكلي من حيث تقديم مساعداتها لأهالي القطاع.
خامساً- عرقلة نتنياهو وزمرة ائتلافه الحكومي من اليمين المتطرف لأي اتفاق من شأنه وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لأهداف تتمثل بالسعي للبقاء في السلطة والتهرب من المحاسبة القضائية بالنسبة للأول، والسعي لتكريس التطرف العنصري وترجمة مشروع التهجير بالنسبة للمتطرفين، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى عرقلة الجهود الإقليمية والدولية «بارس 1+2» أو «مباحثات الدوحة والقاهرة المتكررة»، وإن كانت خجولة بضغطها على الكيان مقارنة بالضغط الذي مورس على المقاومة للتوصل لاتفاق، وهو ما نجم عنه اتساع دائرة الشهداء الذين قضوا نتيجة نقص الغذاء إلى جانب شهداء المجازر المرتكبة.
سادساً- البحث عن حلول إقليمية ودولية «خجولة وتجميلية» لتقديم المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع مثل «رمي المساعدات عبر الجو» أو عبر ما سمي إنشاء الممر البري، وكلتا المحاولتين ليس سوى محاولة من بعض هذه الدول لتلميع صورتها أمام الرأي العام الداخلي والدولي أو بهدف التنصل من مسؤولياتها المتنوعة أو ربما بهدف مساعدة إسرائيل في تقليص عدد أهالي القطاع كما هي حال المخاوف من خلفية إنشاء ميناء ومعبر بحري قد يشكل خطوة أولية لنقل الغزاويين من وإلى خارج القطاع.
اللافت هنا خلال هذا المرحلة أن إسرائيل لم تكن وحدها مسؤولة عن جريمة المجاعة المرتكبة بل إن الكثير من الدول ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية هي شريكة أساسية، وتوجيه أصابع الاتهام هنا مبني على معطيات أبرزها: استمرار إغداق السلاح لإسرائيل من قبلها، وعرقلة ثلاثة مشاريع داخل مجلس الأمن لإيقاف العدوان وإدخال المساعدات، والتمسك الأميركي بالمطالب الإسرائيلية بالهدن المؤقتة.
مجاعة غزة تزداد مع قدوم شهر رمضان المبارك، وهي جريمة بكل المعايير الإنسانية والدينية والأخلاقية والسياسية والقانونية، وهو ما يدفعنا للوقوف بين منتصف تساؤلين، الأول: هل عدم التوصل لاتفاق مع قدوم شهر رمضان واتساع رقعة المجاعة سيكونان نواة انتفاضة ثالثة قريبة جداً كتعبير عن غضب شعبي عربي وإسلامي لا يقتصر على الداخل الفلسطيني فقط؟ والسؤال الثاني: أين السلطة الفلسطينية مما جرى ويجري، أليست أيضاً تتحمل مسؤولية تمسكها بأوسلو على حساب أرواح الشهداء حالها بذلك حال الكثير من الأنظمة السياسة العربية والإسلامية؟

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن