يُلزم الدستور الأميركي الرئيس «المؤتمن» على تطبيقه القيام بجردة حساب سنوية بحكم أنه «النقطة» التي تتقاطع عندها المعلومات والأرقام، ناهيك عن الدراسات التي ترصد التحولات الاجتماعية وثيقة الصلة بنظيرتها الاقتصادية، وكلاهما يمثل الضمانة لاستمرار «ازدهار» القوة العسكرية القادرة على ممارسة السطوة بالدرجة التي برزت عليها في غضون العقود الثمانية المنصرمة، مع بروز أكبر لها ظهر ما بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 الذي كان يتقاسم معها تلك السطوة على امتداد ما يقرب من خمسة عقود من الثمانية آنفة الذكر، وعليه، يلقي الرئيس الأميركي مطلع كل عام خطاباً أمام «صفوة» الساسة الأميركيين بمن فيهم السابقون الذين لعبوا أدواراً في سن القوانين والتشريعات التي كانوا يرون فيها سبيلا لتعزيز مجتمعهم وتعزيز سيادتهم العالمية، والخطاب، الذي اصطلح على تسميته خطاب «حال الاتحاد»، يمثل محور اهتمام عالمي بمقدار ما يمثل محور اهتمام داخلي، قياساً لكونه غالباً ما يأتي راصداً للتوجهات الأميركية في الداخل والخارج على حد سواء، ناهيك عن طقوسه التي غالباً أيضاً ما تبرز «العظمة» الأميركية عبر ظواهر عدة تبدأ عند المكان، المتمثل بـ«الكابيتول»، وتمر بالحضور الجامع لـ»بناة» مجد «الأمة»، قبيل أن تصل إلى المضامين التي لا تنحصر هنا في سردية الخطاب وإنما تتعداها لنظيرة لها تلوح من بين الشقوق، ولعل هذه الأخيرة هي التي يمكن من خلالها لحظ «حال الاتحاد» الحقيقية، بعيداً عن «جفاف» الأرقام، و«إنشائية» الوجهات التي تذهب بها السفينة، بل بعيداً أيضاً عن «لوحة» بات عدد الكوادر المسخرين لإخراجها يقارب عدد «البناة» آنفي الذكر، ويكفي هنا لتدعيم هذه الفكرة الأخيرة الاستناد إلى ما أوردته صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، قبل يومين من الحدث، من أنه «جرى تحضير الرئيس (الأميركي جو) بايدن لخطاب حال الاتحاد بشكل خاص، إذ قضى ساعات خلال عطلة نهاية الأسبوع للتدرب على الخطاب، بغية تجنب الكلمات أو العبارات التي من شأنها أن تسبب له «التأتأة»، وتضيف الصحيفة إن ذلك جرى «برفقة 6 مساعدين ومؤرخ»، وإن هؤلاء «حضوا الرئيس على تجنب الارتجال، وترك العنان لعواطفه أثناء الخطاب، الأمر الذي أدى في كثير من الأحيان إلى زلات لفظية»، والمؤكد هنا هو أن هذا الفريق الذي ظهر بسبعة لاعبين كان وراءه «لواء» تقسمت مهام كتائبه ليقوم كل منها بدوره الرامي إلى إنجاح المشهد وخروجه للعلن بطريقة توحي للناظر بأن هذا يمثل «الطبعة الأخيرة» المنقحة من الكتاب الذي يرصد حال أعتى قوة عرفها التاريخ حتى الآن.
ألقى الرئيس الأميركي يوم الخميس الماضي، 7 آذار الجاري، خطاب «حال الاتحاد» وتناول فيه «هموم» الداخل التي تمحورت حول مسألتي الحدود والهجرة شديدتي التأثير في المجتمع والاقتصاد الأميركيين، كما تناول مسائل السياسة الخارجية التي تمحورت، هي الأخرى، حول قضيتي الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة، ومن خلال هذا التناول الأخير اتخذ بايدن من موضوعيهما، والطريقة التي تناولهما بها، منبراً خطابياً سعى من خلاله لتعزيز حملته الانتخابية التي لا تشير وقائعها، حتى الآن، إلى ارتفاع أسهمه صعوداً في مواجهة خصمه دونالد ترامب الذي استطاع في يوم «الثلاثاء العظيم» انتزاع بطاقة الترشح عن الحزب «الجمهوري» للانتخابات التي ستجرى شهر تشرين ثاني المقبل.
في تناوله للمسألة الأوكرانية قال بايدن: «إذا كان أي شخص في هذه القاعة يعتقد أن (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين سيتوقف عند أوكرانيا، فأنا أؤكد لكم أنه لن يفعل ذلك»، ثم أضاف: «إن الانسحاب الأميركي سيعرض أوروبا للخطر، والعالم الحر سيكون في خطر»، وليس من الصعب هنا تلمس تغليب «الانتخابي» من خلال الربط الذي استخدمه بايدن ما بين مواقف «الجمهوريين» الراهنة من النزاع الأوكراني، والموقف الذي اعتمده الرئيس الجمهوري السابق رونالد ريغن (1980 – 1988) الذي نقل عنه قوله: «يا سيد غورباتشوف، اهدم هذا الجدار»، في إشارة إلى «جدار برلين» الذي سقط العام 1989 مشكلاً بفعلته تلك أهم تحول جيوسياسي شهده العالم منذ عدة قرون، ودافعاً بالقوة الأميركية نحو انفرادها بالسيطرة العالمية التي لا تزال في سدتها حتى الآن رغم التآكل الآخذ بالاتساع في نسيج تلك السيطرة.
هذا التناول الذي يحمل بين طياته تلويحاً بالمخاطر التي يمكن أن تجيء بها عودة محتملة لدونالد ترامب، يشير إلى «تقزم» موصوف لـ«حال الاتحاد» انطلاقاً من مسعى يذهب باتجاه تحويل أهم منبر وطني، يرمز أساساً إلى استحقاق دستوري بالغ الأهمية، إلى منبر انتخابي كانت نبرته عالية بدرجة لم تكن مسبوقة، والراجح أن في الأمر ما يدعو إليه، فوصول ترامب، سيمهد لسيناريوهات خطرة من نوع «اضمحلال» حلف شمال الأطلسي ولربما تفككه، وهذا بالضرورة سيشكل مقدمة لتفلت العالم من قبضة أميركية بات التململ منها واضحاً، ناهيك عن وجود ميل «ديكتاتوري» واضح لدى الرجل، وهذا بالتأكيد لا يشير إلى ظاهرة فردية بمقدار ما يشير إلى نزعة تتبناها شرائح وازنة، ممثلة بناخبيه، وهي تغوص بين ثنايا مجتمع راح يرى أن «المركزية» الصارمة قد تكون بديلاً أفضل من «تشاركية» لا تحظى بالأسباب الموضوعية لتناميها وسط محيط، داخلي وخارجي في آن، يميل الكل فيه، التكتلات والدول، إلى النحو باتجاه الإمساك بتلابيب القرار تلافياً لمطبات عدة راحت تبرز من خلال الهوة التي بدأت بالاتساع ما بين النسج، والخيوط المكونة لها، وبين «الثوب» الذي بات «فضفاضاً» على مقاس القوة الأعتى.
كاتب سوري