من الانتخابات الرئاسية الأميركية إلى الانتخابات البلدية التركية.. الاستثمار تجاه غزة واحد
| محمد نادر العمري
لا يبدو أن هناك الكثير من إشارات الاستعجاب عن سبب مسارعة المرشحين للانتخابات الرئاسية الأميركية لإبداء مواقفهم الداعمة للكيان الإسرائيلي وحكوماته المتعاقبة، متعهدين بكل ما يملكونه من صلاحيات يتمتعون بها في حال وصولهم إلى سدة الحكم الحفاظ على تفوق هذا الكيان على مستوى المنطقة في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى التكنولوجية، وتقديم ما يمكن تقديمه من مساعدات متزايدة في سبيل ذلك، إلا أن اللافت بكل ما يعنيه هذا المصطلح هو استثمار حزب العدالة والتنمية التركي لمعاناة أهالي غزة بهذا الشكل المفضوح لتحقيق غايات سياسية، على الرغم من أن النظام التركي ورئيسه المدعو «رجب أردوغان» وحزبه الحاكم، قد استثمر في العديد من ملفات المنطقة عامة والملف الفلسطيني بشكل خاص، كما حصل سابقاً من خلال ما عرف بـ«سفينة الحرية» أو باخرة مرمرا التي توجهت من تركيا إلى شواطئ غزة منذ ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً ونصف العام وبالتحديد صيف 2010 تحت ذريعة كسر الحصار المفروض على هذا القطاع.
من أبرز صور الاستثمار الانتخابي لمعاناة أهالي غزة من حزب العدالة والتنمية هو ما صرح به مرشح الحزب لرئاسة بلدية إسطنبول «مراد قوروم» عندما قال: «سيفرح المظلومون في غزة إذا جئنا إلى السلطة في 31 آذار، سيفرح إخوتنا في غزة الذين يمدون يدهم إلينا، سيفرح أطفالنا في غزة»، ليظهر الصورة الحقيقية لسلوك وموقف ووجه هذا النظام القائم في تركيا، ويكشف بذلك بشكل لا لبس فيه وبحدث جديد مدى قيام هذا النظام ومسؤوليه وأنصاره باستغلال التطورات الإقليمية لتحقيق مآربهم الداخلية من حيث الاستئثار بالسلطة ومن حيث توسيع نفوذهم وتحقيق مصالح إيديولوجية في المستوى الخارجي، على غرار ما حصل في ليبيا ومصر وسورية والعراق والسودان والأزمة الخليجية والأوكرانية وصراع إقليم كراباخ.
تصريح قوروم وإن لم يكن الوحيد إلا أن الكاتب يستند إليه كمرجعية مقارنة بين ادعاءات هذا النظام الإعلامية وبين التطبيق الفعلي في معالم السياسة الخارجية لتركيا تجاه قطاع غزة والكيان الإسرائيلي، ولاسيما في ظل المعطيات والبيانات والمعلومات التي كشفت عنها شخصيات سياسية معارضة تركية أو وسائل إعلام مناهضة لحزب العدالة والتنمية، إذ تتجلى أهم المعطيات التي تفند هذا التصريح في البيانات التالية:
مسارعة العديد من الشخصيات السياسية المعارضة والبارزة في تركيا لكشف زيف وحقيقة هذا التصريح وعده بأنه استثمار في آلام مظلومي غزة كأداة لكسب الأصوات في سلوك غير أخلاقي ومنعدم الضمير وفق توصيف رئيس حزب السعادة «تيميل أوغلو»، الذي أضاف: «إنه لا يمكن أن تتخذ الإبادة التي يعيشها إخواننا في غزة، أداة في السياسة»، داعياً قوروم لتجاوز صلاحية الحكومة بهدف إيقاف خط السفن التجارية المتزايدة بين أنقرة وتل أبيب، في حين استهزأ الرئيس الحالي لبلدية أسطنبول ومرشح حزب الشعب الجمهوري، «أكرم أمام أوغلو»، بهذا التصريح عبر تعجبه من مضمون تصريح قوروم الرامي لمساعدة أهالي غزة، على حين رئيس نظامه وحزبه متقاعس عن ذلك في الواقع العملي، كما عدَّ البعض هذا التصريح بإنه صادر عن شخصية غير متزنة على حد وصف «أوزغور أوزيل» زعيم حزب الشعب الجمهوري، في حين دعا البعض قوروم للصمت لكون النظام التركي هو الذي يمد الكيان بالطعام الذي يصدّر إليه في ظل ارتكابه المجازر وفرض المجاعة على أهالي القطاع.
من حيث الأرقام والبيان فإن ما يؤكد حقيقة زيف هذه المواقف البالونية هي المعطيات الاقتصادية المتنامية بين الكيان وتركيا، على الرغم من مرور قرابة نصف عام على ممارسة قوات الاحتلال لأبشع جريمة عرفها التاريخ السياسي المعاصر، إذ تشير هذه المعطيات للآتي:
– نشرت صحيفة قرار المقربة من حزبي «المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو، و«الديمقراطية والتقدم» بزعامة علي باباجان تحقيقاً يؤكد ارتفاع حجم الصادرات إلى «إسرائيل» لما يزيد على 20بالمئة بعد عملية طوفان الأقصى، وأن الأرقام الرسمية التركية لا تخفي ذلك بل على العكس هي التي نشرت نسبة ارتفاع صادرات تركيا للكيان خلال شهر شباط الماضي، والتي تجاوزت ما نسبته 21 بالمئة مقارنة بالشهر الأول من مطلع العام الحالي، ونوهت الصحيفة المقربة من أكثر شخصيتين كانتا تمثلان «الكنز الأسود» لأردوغان بارتفاع حجم التجارة بين الجانبَين خلال عهد العدالة والتنمية من مليار و400 مليون دولار إلى أكثر من 7 مليارات ونصف المليار عام 2022.
– الزيارة التي قام بها، كل من وزير الخارجية التركي حاقان فيدان، ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالين، إلى واشنطن منذ أيام، التقى خلالها المسؤولان التركيان نظيريهما الأميركيين أنتوني بلينكن، ووليم بيرنز إلى جانب مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، لم يسجل البيان الصادر عن هذه الاجتماعات، أي موقف جدي تجاه غزة بل عدَّ هذا البيان ما يحصل هناك بأنه «أزمة» فقط وفق النقطة الثانية لما تضمنه البيان ولم يشر البيان، مطلقاً إلى مسألة وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع، ما عكس موقفاً «هزيلاً جداً» لتركيا من الوضع في غزة واستثمارها الانتخابي لمعاناة أهالي القطاع.
بالتوازي مع ذلك وبالانتقال لحلبة المنافسة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، فإنها هي الأخرى لم تخل من هذا الاستثمار بل على العكس، كان ملف غزة والمعاناة الإنسانية هناك ودعم «إسرائيل» أبرز نقاط التجاذب بين المرشحين سواء في الانتخابات التمهيدية، أم في الانتخابات المباشرة بين مرشحي الحزبين.
فالمرشح الديمقراطي والرئيس الحالي جو بايدن الذي سارع لتقديم كل إمكانات إدارته بعد عملية طوفان الأقصى بهدف كسب تأييد اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة الأميركية لدعمه في الانتخابات، مازال يراوغ فيما يتعلق بوقف معاناة الغزاويين، وهذا يظهر بشكل لا لبس فيه من خلال استمرار أركان إدارته بتبني الإستراتيجية العدوانية الإسرائيلية الهادفة للقضاء على الفصائل المقاومة في قطاع غزة وتحميلها مسؤولية ما يعانيه أهالي غزة من مجاعات ومجازر مرتكبة، وليس هناك أي عاقل يمكنه التصديق بأن واشنطن التي تستمر في مد الكيان بجسر عسكري جوي على مدار الساعة وتغطيته سياسياً على المسرح الدولي لا تستطيع إجبار حكومة الكيان على فتح المعابر البرية لإدخال المساعدات، وما يتم الترويج له من إسقاط المساعدات جواً أو إنشاء ميناء بحري ليست سوى محاولة لتلميع صورة هذه الإدارة داخلياً وتوظيف ذلك لتحسين نسبة التأييد الشعبي للرئيس بايدن ضد منافسه القديم الجديد دونالد ترامب، لكون هذا الإجراء الأميركي الجوي والبحري لايفي بالغرض من جانب وقد يكون وسيلة للتجسس على المقاومة من الجو، وتدمير أحد مسارات تحركها وإيصال السلاح لها بحرياً.
أما المرشح الجمهوري دونالد ترامب والذي يعتبر من أفضل الرؤساء المقربين لرموز اليمين في إسرائيل، فإنه كشف عن نيته زيادة دعم هذا الكيان في إحدى لقاءاته التلفزيونية بعد فوزه في انتخابات الثلاثاء الكبير.
بالعموم باتت معاناة أهالي قطاع غزة من نساء وأطفال وكبار السن مجرد ورقة مساومة واستغلال، فالشهداء هناك من يريد تحويلهم لمجرد أرقام، والجرحى باتت قضية معاناتهم سردية تقليدية، والمجازر مجرد صورة وفيديوهات لاكتساب المزيد من المشاهدات، والقضية برمتها أضحت ورقة تجاذب ومساومة لإحراز تقدم في المفاوضات الإقليمية والدولية فضلاً عن الاستثمار السياسي الانتخابي أو غير الانتخابي بآلام أهالي غزة المتفاقمة.
كاتب سوري