ثقافة وفن

وهم البقاء والخلود

| إسماعيل مروة

في كل جانب من جوانب الحياة نلتقي مع الذين يعيشون وهم البقاء والخلود، سواء كانوا ناساً عاديين أم كانوا أصحاب شأن، فهذا يكره الموت، وهذا يستبعده، وهذا يضمّ يديه على ماله، وهذا يقتر على نفسه وعلى عياله، وهذا يسرق، وهذا يظلم، وهذا يتشبث، وهذا يستبعد! وليس بباق ولا خالدِ كما يقول ابن الرومي، وهذا الإحساس عادي لدى العامة، وفيما يخص الحياة الفردية، أما الطامة الكبرى فتتمثل في وجود هذه الظاهرة السلبية في الحياة العامة، وفي الشأن العام، فالوزير يلغي من قبله، ويسدّ المنافذ، وكأنه هو الذي بدأ المكان، وهو الذي سيأخذ الطاولة والكرسي والأختام والأوامر الإدارية بأغلاطها اللغوية والإدارية إلى دار البقاء ليكون وزيراً منتجباً هناك! والمدير يتصرف بالإدارة وكأنها ملكية خاصة بكل تفاصيلها! والأكاديمي والعالم، الذي من المفترض أن يكون عالماً، يجد نفسه بيضة الديك الوحيدة، ويكابر ويتحدث ويتصرف، وكأنه وقد مضى عليه عشرة آلاف سنة كمستحاثة، وكأنه اليوم ولد ويملك علم الأول والآخر، ويعرف كل العلوم، حتى تلك التقنيات التي لم تعرف بعد!

الخلود محال، ولن يبقى واحد، كلنا راحلون، وتبقى الأرض، وما من واحد منا على صعيد فردي وأسري أو على صعيد عام التفت إلى قول بدوي الجبل:

سيذكرني بعد الرحيل أحبتي

ويبقى من المرء الأحاديث والذكر

والذي صاغه بأسلوب جديد وراق ليكون على قبره لقول شاعر صعلوك:

أماوي إن المال غاد ورائح

ويبقى من المرء الأحاديث والذكر

وهذا ينسجم مع القول الإنساني: «إنما المرء حديث بعده فكن خير حديث ينتقل».

ومع القول: إن الإنسان لا يعدم لقمة عيش ولا مرقد رأس بعد الموت، وإن المبادئ تبقى بهارات الحياة.

فإذا كان ما نبحث عنه هو خلود الذكر والأحاديث فذاك أمر آخر، له عدّته، وله أشخاصه، وله نابغوه، ولا يحصل عليه كومة من الناس تتحرك بآلية وظيفية، وهي ملكة يتمتع بها قلة من الناس عبر العصور، وهبهم الله صفة الخلود المعنوي والبقاء الأبدي، لأنهم كانوا محبين لذواتهم، وبالتالي كانوا محبين للآخرين.

ولو سألنا أنفسنا: بما أن الخلود والبقاء الجسدي محال، فمن أين اكتسب هؤلاء الذين نذكرهم خلودهم المعنوي؟ كيف استطاع الخالدون في الذاكرة أن يخلدوا؟ وهل يمكن للخلود أن يكون سفر مفروضاً من جهات ما؟

أخذ هؤلاء الخالدون والباقون بقاءهم وخلودهم من سجاياهم ومن تفوقهم الحقيقي، ومن تميزهم في كل صعيد، فحول سيف الدولة أكثر من أربعمئة شاعر، بقي المتنبي وخلد، والباقون على تفاوت، قد لا يأتي ذكرهم في الدهر مرة، فهذا الصنوبري لا يقترب من بني الشعر مكانة، وهذا ابن خالويه لا يذكر على مكانته أمام صاحبنا، لأنه ملك الحقد والخصومة وبقي المتنبي الذي يعيش كما هو، وبقي ابن جني معه لأنه كان محباً ومخلصاً ووفياً.

أين أسماء قادة الجند؟ أين أسماء أصحاب الدواوين؟ أين أسماء الوزراء؟ لا أحد يعرفهم، ولا ذكر لهم لأنهم عاشوا على المكر والخديعة، ولأن أدوارهم كانت للحياة ولم تكن للحب، وفي كل زمان يذهب الناس وتبقى الكلمة، من اليونان نذكر سقراط وأرسطو وأفلاطون وسوفوكليس ويوربيدس، ولكننا لن نستطيع أن نتذكر أسماء الذين كانوا يهتمون بالحياة.. غاليلي بقي اسمه ونسي التاريخ أسماء الجناة الذين أنهوه، ابن سينا، الفارابي، البيروني وسواهم قد لا نتذكر عصورهم إلا إذا كنا متخصصين، فما بالنا بالذين كانوا في أزمانهم المجهولة أصلاً، وإلى زمن قريب بقي بطرس البستاني والشدياق وجبران ونعيمة، ولكن ما من واحد يعرف شيئاً عن أولئك الذين كانوا في أزمانهم، بل إن أزمانهم وبلدانهم كان من الممكن أن تضيع.. الأمير الذي كان في عصر ابن زريق لا أحد يعرفه، ويقولون: أحد الأمراء، لكن قصيدته باقية، كل القادة في عهد عمر ذهبوا وبقيت بائعة الحليب خالدة، واليوم تعج حياتنا بالمثقفين والأدباء، لكن الذين فرضوا الحب علينا خلدوا في الذاكرة، فبقي السياب وشوقي ونزار قباني وبدوي الجبل والجواهري والأخطل الصغير وعمر أبو ريشة وأدونيس، وما عدا ذلك من أنصاف المحبين غمرهم النسيان.

إنها رحلة الحياة، فما دمتُ غير قادر على البقاء، فلأكن قادراً على الحب لأسعد، وليأخذ واحدنا جانب الهدوء والحب، وإن كان جديراً فسيبقى في الذاكرة.. ويبقى من المرء الأحاديث والذكر، والحاقدون يقتلهم حقدهم في ذواتهم قبل أن يصبحوا طعاماً للتراب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن