شؤون محلية

ارمها وربك يرويها

| ميشيل خياط

تجمهر بضعة أطفال ترافقهم أمهم على جسر فوق نهر بردى بمحاذاة قلعة دمشق، وراحوا ينظرون بدهشة إلى النهر المتدفق بقوة، صانعاً شلالات غير معهودة …!

غالباً ما يكون النهر في تلك المنطقة، مكب قمامة فكيف تغير …؟ إنها الأمطار الجيدة والثلوج التي انهمرت حتى الآن، معلنة عن سنة رطبة اشتقنا إليها.

تذكرت حواراً أجريته مع الدكتور جميل فلوح خبير المياه السوري، المدير العام الأسبق، للموارد المائية في محافظتي دمشق وريفها، قال لي في سياقه، إن بردى في السنوات الخيرة مطرياً يستمر في الجريان حتى نهاية حزيران.

ولكن تمنيت أن نستفيد من هذا الجريان المائي الغزير، عبر سد يدخر للصيف الحار ماء نظيفاً نسبياً بدلاً من الإرواء بمياه ملوثة بنسبة 500 بالمئة، تنساب من مجرى بردى بصفته مجروراً كبيراً للنفايات السائلة.

وهذا السد مدروس منذ زمن بعيد واسمه سد العادلية، سيحتضن الماء الفائض عن نهري بردى والأعوج في السنوات الخيرة.

لم يحظ هذا السد بمن يتبناه، وغاب تحت حجج واهية، وظلت دمشق من دون سد في بلد لـ164 سداً في مختلف المحافظات السورية.

وبين وقت وآخر يطلب مني أحفادي أن أساعدهم في كتابة موضوع تعبير «مدرسي» عن بردى، فأمضي وقتاً جميلاً مع نهر تغنى به الشعراء، من أحمد شوقي (سلام من صبا بردى أرق) إلى سعيد عقل (لي فيك يا بردى عهد أعيش به عمري ويسرقني من حبه القمر) وجورج صيدح (حلمت أني قريب منك يا بردى أبل قلبي كما بل الهشيم ندى) ونزار قباني (بردى يا أبا النهور جميعاً يا حصانا يسابق الأياما، كن بتاريخنا الحزين نبياً يتلقى من ربه الإلهاما).

ولقد لفت انتباهي أن أياً منهم لم يتنبأ بالمصير الأسود الذي انتهى إليه نهر خصته المطربة الكبيرة فيروز برائعتها: مر بي يا واعداً وعدا مثلما النسمة من بردى تحمل العمر تبدده آه ما أجمله بردى.

قرأت على محرك البحث غوغل أن هذا النهر كان في العام 1905، يدير خمس عنفات لتوليد الكهرباء في التكية بسهل الزبداني، وكان يشغل 17 طاحونة في دمشق العام 1920.

ولعل من أوائل من لفتوا الانتباه إلى تأثير الزيادة السكانية في دمشق على هذا النهر هو الأستاذ عبد العزيز العظمة في كتابه (مرآة الشام)، إذ أشار إلى أن تلك الزيادة أدت إلى تلوث النهر ما قاد إلى تمديد قسطل حديد من نبع الفيجة إلى دمشق، لتوفير مياه آمنة للشرب، ومع تفاقم الزيادة السكانية تم إنجاز قناة على يد لجنة مياه عين الفيجة، عبر أنفاق داخل الجبال من نبع الفيجة إلى دمشق في العام 1932.

وهنا نلاحظ أول ترابط ما بين نبع الفيجة ونهر بردى، فهذا النهر يتدفق بغزارة عندما يفيض نبع الفيجة ويطرح الماء الفائض عن حاجة سكان دمشق إلى مياه الشرب، في مجرى نهر بردى الذي يمر بمحاذاة النبع المذكور، وما من شك أن تلك الغزارة التي تصل في شتاءات السنوات الخيرة إلى 30م3 في الثانية، هي نتاج غزارة في الثلوج الذائبة والأمطار.

وبهذا المعنى فإن بردى الذي نتوق إليه غزيراً هو هبة المطر، وثمة سبيل إلى مطر وفير يكمن في غرس ملايين الأشجار واستعادة أشجار الغوطتين والعودة بدمشق إلى جذورها كفيحاء.

لا تستهجنوا، أن المؤتمرات البيئية السنوية cop27 مثلاً تحدثت عن مشروع إقليمي شرق المتوسط لغرس 50 مليار شجرة، حصة السعودية منها 10 مليارات شجرة خلال ثلاث سنوات.

بالتعاضد الشعبي سنقوى.

لقد أرسل لي الأستاذ يحيى بوظو الخبير الدولي في منظمة الصحة العالمية ملخصاً عن مقالة لخبيرة التغذية المصرية سالي فؤاد جاء فيه تحت عنوان (ارميها ربك يرويها)، إنه في تايلاند وماليزيا، طبقوا مبادرة عدم إتلاف بذور الفواكه والبقوليات، بل تجفيفها في الشمس ثم وضعها في أكياس ورقية واصطحابها في النزهات إلى (البرية) ورميها هناك، ما أحدث وفرة هائلة في البلدين بالأشجار والبقوليات وبهذه الطريقة الفعالة والبسيطة ساهموا في حفظ الأرض للأجيال القادمة.

(ارمها وربك يرويها).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن