اتفاقية أمنية بين فرنسا وأوكرانيا.. ضربة موجعة للروس أم لعب في الوقت الضائع؟
| فراس عزيز ديب
كما كان متوقعاً، مرَّر البرلمان الفرنسي بالأغلبية المطلوبة الاتفاق الأمني الموقع بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والأوكراني فلوديمير زيلنسكي، اتفاق لا يبدو من المجدي الغوصَ في تفاصيلهِ لأنه لا يحمل بنوداً لها طابع استثنائي بما فيها إمكانية دخول فرنسا الحرب مباشرةً مع أوكرانيا وبمعنى آخر: هل هو اتفاق يعيد تصويب مسارات الحرب أم أنه أشبهَ بحالةٍ صوتية أكثر منها تجسيداً لتعاونٍ استثنائي بين بلدين أحدهما على شفا الانهيار العسكري أمام القوات الروسية، وهذا الكلام هو ما عبرَ عنه رئيس الوزراء الفرنسي غبرييل أتال بالقول خلال دفاعهِ عن الاتفاق أمام البرلمان: «إن إدارة ظهرنا للوضع المتردي في أوكرانيا يعني إدارة الظهر لقيمنا وتاريخنا»، ربما كان من المجدي سؤال أتال عن حالة القيم هذه في ظل المذبحة المفتوحة في قطاع غزة وجنوب لبنان، واكتفاء الجانب الفرنسي حتى الآن بلعب دور صندوق رسائل لضمان أمن القاتل ومساواته بالضحية، أم أن الساسة الفرنسيين اعتادوا التعاطي بمكيالين إنسانيين؟!
مبدئياً وبالعودة إلى نتيجة التصويت تلك، فإن الإعلام الرسمي ومن يلوذ به صورَ نتيجة التصويت الذي هو أساساً غير ملزم على أنه انتصار للديمقراطية عندما اعتبر بأن النتيجة عكست الرغبة الفرنسية بعدم البقاء على الحياد، لأن انتصار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا ستكون نتائجه كارثية على أوروبا بالكامل، وهي العبارة التي كررها تقريباً جميع المتحدثين الرسميين أو غير الرسميين على هذا الإعلام، والذين اعتادوا سوق البروباغندا ضد كل ما له علاقة بالروس، علماً أن المصوتين مع الاتفاق هم 372 نائباً والمعارضين له 99 نائباً فيما استمر اليمين المتطرف بسياسة مسك العصا من المنتصف بكل ما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية عبر امتناعه عن التصويت، وهذا يبدو مفهوماً تحديداً بأن مواقف اليمين المتطرف دائماً ما يتم استغلالها من قبل الخصوم للحديث عن العلاقة والدعم الذي يتلقاه الحزب من الرئيس فلاديمير بوتين.
أما السياسي العتيق جان لوك ميلانشون المتهم الآخر بما يسمونه «صديق الديكتاتوريات»، فكان له رأي مباشر عندما صوت أعضاء كتلته ضد الاتفاقية، وبالوقت نفسه شنَّ هجوماً على الرئيس ماكرون تحديداً منذ إعلانه إمكانية إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، بمعنى آخر يجب النظر بالكثير من التمعن لرافضي هذا الاتفاق وما يمثلونه من خلال السبعة والستين مليوناً من عدد السكان في فرنسا، قبل الحديث عن اتحاد الفرنسيين خلف مواقف ماكرون الأخيرة من الحرب على أوكرانيا، تحديداً وسطَ الغموض الذي تحمله هكذا نوع من الاتفاقيات، وعلى هذا الأساس انتظر الفرنسيون إطلالة ماكرون مساء الخميس على القناة الرسمية الأولى للحصول على إيضاحات حول مآلات الموقف الحالي من الحرب الأوكرانية والذي تبدو فيه فرنسا مدفوعة لرفع السقوف وتجاوز الخطوط الحمر فهل تمكن ماكرون من تقديم رؤية متكاملة للإستراتيجية الفرنسية في أوكرانيا؟
للإجابة عن هذا السؤال دعونا نتذكر بأن الحديث عن «إستراتيجية فرنسية» ليس مجرد مصطلحٍ عابر لأنه يعني ضمنياً غياب إستراتيجية أوروبية متكاملة لإنقاذ الوضع في أوكرانيا، فالشريك الأوروبي الأهم ألمانيا، يبدو خارج هذا التصعيد حتى الآن على الأقل بما في ذلك التصعيد الإعلامي، دون أن ننسى اختفاء الحديث تماماً عن انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي!
بالسياق ذاته هذا المصطلح يعني ضمنياً غياب إستراتيجية متكاملة من قبل دول «ناتو» لإنقاذ الوضع في أوكرانيا ما خلا فكرة إرسال العتاد وقتال الروس حتى آخر أوكراني، وهو أمر لم يعد بالإمكان إخفاؤه لدرجة أن هناك من بات يعتبر في الأوساط الأوروبية بأن هذه الاتفاقيات المنفردة والتي سبقها اتفاقية مع بريطانيا وبدرجة أقل إيطاليا، هي أشبه بجوائز ترضية لنظام زيلنسكي لتعويضه عن الحلم المفقود بدخول الاتحاد الأوروبي ولأن فكرة الدخول في «ناتو» التي سببت كل هذا الدمار باتت بعيدة.
لم يخيب الرئيس الفرنسي خلال إطلالته التلفزيونية للدفاع عن الاتفاقية، التوقعات لمسار المقابلة، والتي بدأها بترهيب الفرنسيين من الطموحات الروسية، كما جرت العادة، لكنهُ عاد وتحدث عن تلاشي المصداقية الأوروبية في حال انتصار الروس؟ وماكرون هنا كان يحث الدول الأوروبية الفاعلة على ألا تكون «جبانة» كما وصفها من قبل في دعم أوكرانيا، لكنه لم يجب عن السؤال الأهم: وماذا عن المصداقية في باقي المحافل الدولية؟ لماذا تتسم السياسة الفرنسية بالجبن فيما يتعلق بالتغريد خارج السرب الأميركي؟!
كذلك الأمر في الداخل، لم يسلم المعارضون أو الرافضون للاتفاقية من السيف البلاستيكي الذي يحمله رجل البنوك السابق، عندما اعتبر أن «وجهة نظرهم من التصويت هي قبول بالهزيمة لا اختيار للسلام»، لكنه لم يشرح عن أي هزيمة يتحدث وعن أي معركة تُخاض؟ تحديداً أنه ذات نفسه أكد بأكثر من مرة في المقابلة ذاتها بأن «فرنسا ليست في حالة حرب مع روسيا.. فرنسا لن تبادر بالهجوم على روسيا»، ألا يتناقض هذا الكلام مع الحديث عن هزيمة لمعركة غير موجودة أساساً، والأهم من ذلك ألا يتناقض مع دعوته لإرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، هل سيذهب هؤلاء للسياحة في كييف مثلاً، ألا يمثل ذلك إعلان حرب بصورةٍ غير مباشرة؟! مع التذكير هنا بأن كلامه عن رفض تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول «الرد بالسلاح النووي إن اقتضى الأمر» هي لزوم مالا يلزم لأن بوتين هنا كان يرد على تقارير أميركية تتحدث عن إرسال قوات أميركية إلى أوكرانيا.
هذا التناقض لا يبدو وحيداً في الشق العسكري بكلام ماكرون فهو تحدث عن قيام الروس بالهجوم على مصالح فرنسية داخل فرنسا وخارجها، ولكن ما هي هذه العمليات التي قام بها الروس؟ وأينَ جرت؟ لم يعط مثالاً واحداً، إلا إن كان يقصد بمعارك لعبة النفوذ السياسي لا العسكري خارج فرنسا، أي التمدد الروسي في إفريقيا وحالة الرفض الكامل لما يمثله الوجود الفرنسي هناك، بهذا السياق عليهِ ألا يسأل الروس لماذا تمددوا بل عليه البحث في أسباب تراجع النفوذ الفرنسي هناك، وعليه أن يسأل كيف يتم التعاطي مع الدول هناك على أنها دول درجة عاشرة؟ وهو ذات نفسه اعترف يوماً بأن هناك أخطاء في التعاطي المتعالي مع الدول الإفريقية فيما يتعاطى معهم الجانب الروسي من مبدأ الشركاء أو الأصدقاء، هنا ليس علينا لوم الروس لأن البحث عن المصالح هو في جوهر العمل السياسي، بل على الفرنسيين أن يراجعوا سياستهم الخارجية التي أدت إلى ما أدت إليه من خسائر في النفوذ!
ختاماً، وبما تتسع له سطور هذه الزاوية، فإن ماكرون لم يجب عن السؤال الأكثر إلحاحاً بما يتعلق بالدعم الفرنسي المالي لأوكرانيا: من أين سيتم تمويل الإنفاق على كل هذا الدعم والذي سيصل إلى ثلاثة مليارات يورو فقط خلال العام الجاري؟ بعض النواب تحدث عن خفض نفقات الموازنة والبعض الآخر تساءل كيف يمكن لدولة أن تفكر برفع سن التقاعد لخفض أعداد المستفيدين من تعويضاته بسبب الأزمة المالية وبالوقت ذاته تكون بهذا الكرم في حربٍ لا ناقةَ لها ولا جمل؟ هذا السؤال هو في الحقيقة جواب عن الأسباب التي أدت لظهور شعار «الحرب الأوكرانية ليست حربي» من خلال الكثير من الاحتجاجات الذي شهدها الشارع الفرنسي، هذا الشارع تبدو مطالبه بسيطة، لا نريد أن نكون الخزنة التي تمول حروب الآخرين فلماذا لا نجرب سياقاً آخر في العلاقة مع روسيا؟
إن الجواب عن هذا السؤال هو بيد الساسة الفرنسيين، لكن من الواضح بأن الكثير من الأسئلة ليس لها جواب كما هي تناقضات خطاب ماكرون ومسوغاته، فعندما تحدث عن إمكانية إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا قلنا إنها ليست استعراض عضلات ولا تجاوزاً للخطوط الحمر هي مجرد زلة لسان وهو ما أثبتته الأيام، بالسياق ذاته لا تبدو هذه الاتفاقية أكثر من مجردِ «ضجة استعراضية» يريد من خلالها ماكرون استعادة بعض الهيبة للإرث الاستعماري المفقود، لكن كل هذا لن يمنع حقيقة أن الوضع في أوكرانيا بات يلفظ أنفاسه الأخيرة ولن تنفع معه اتفاقيات الإنعاش، ولمن لا يصدق فليدقق بالتقارير الغربية التي تتحدث عن تواصل عدد من الدول الأوروبية مع الروس بهدف إعادة مد جسور التعاون الاقتصادي!
كاتب سوري مقيم في فرنسا