قضايا وآراء

«البعث» كطليعة أخلاقية في مواجهة انحسار المعيار القيمي الاجتماعي

| د. أسامة دنورة

فرضت الظروف الناتجة عن الحرب في سورية مجموعة من التحديات المستجدة التي تواجه الأحزاب السياسية الوطنية، بما يتطلب من هذه الأخيرة إجراء إعادة نظر جذرية في أدائها، ابتداء من إعادة الهيكلة التنظيمية، مروراً بتطوير المقاربات الإيديولوجية، وليس انتهاءً بضخ الدماء الجديدة في هرمية المواقع القيادية، اعتباراً من قيادات الوحدات الأصغر، وصولاً إلى القيادة المركزية.

والبعث العربي الاشتراكي هو واحد من تلك الأحزاب الذي يواجه مسؤولية مضاعفة، فبحكم تجذره في الحياة السياسية السورية، وتاريخه، واتساع قواعده، ينبغي للبعث انجاز «إعادة انبعاث» جدية ومتكاملة، وكفيلة بمواجهة ظروف وتعقيدات المرحلتين الحالية والمقبلة.

ولعل من أبرز التحديات الراهنة على أرض الواقع اليوم، هو كون العديد من الأطر المجتمعية والمؤسسية، تعاني حالة من الخلل التي يمكن أن نوصّفها أو نطلق عليها مصطلح «اللامعيارية».

واللامعيارية، وفق المفهوم الذي وضعه «دوركهايم»، تنطوي على افتقار المجتمع إلى القاعدة والمعيار اللذين يمكن بهما وبناءً عليهما، تمييز السلوك السوي عن غير السوي، حيث تصاب القيم والأعراف والقوانين في المجتمع بالضعف والوهن، ويتحقق العجز عن إنتاج منظومة قيم وأخلاق مجتمعية مستقرة، وناظمة للسلوك، وقابلة لأن يتم القياس عليها.

وفي هذا الإطار هناك العديد من «المثنويات» المتصارعة ضمن المعيار القيمي المجتمعي السوري، فالمصلحة العامة مقابل المصلحة الخاصة والفردية، والتشدد الأخلاقي والديني مقابل الانفلات والإباحية، والالتزام بالقانون مقابل شيوع الفساد، وأولوية دور الدولة في الاقتصاد مقابل سيطرة الأوليغارشيا والقطاع الخاص، وجميعها مثنويات تتصارع أطرافها في إطار مشهد من عدم وضوح المعيار المجتمعي – السياسي.

وهنا، وبالدرجة نفسها التي لا تستطيع فيها الأحزاب الوطنية أن تستقيل من دورها السياسي، فهي بالقدر ذاته لا تستطيع أن تستقيل من دورها المجتمعي، فالأحزاب هي صلة الوصل الأساس بين المجتمع من جهة، ومؤسسات الحكم الدستورية من جهة أخرى، ودورها يجب أن يكون محورياً وفاعلاً في كلا الاتجاهين.

وطالما أن «اللامعيارية» حالة تصيب كل من المجتمع والمؤسسات معاً، بل وقد يحمّل كل منهما، ضمناً، الطرف الآخر مسؤولية الفشل في إنتاج أو اتّباع، معيار صحيح، فإذاً لا غنى عن دور الأحزاب الوطنية لإعادة النهوض بالأخلاق المجتمعية.

إن دور البعث في إطار هذا المشهد، وبحكم ثقله السياسي الانتخابي والتاريخي، لا ينبغي أن يقل عن دور الطليعة الأخلاقية القادرة على إعادة بناء المعيار الأخلاقي- الاجتماعي، وصولاً، وارتباطاً سببياً، باستعادة الثقة بجودة وموثوقية التزام المؤسسات الدستورية والحكومية والقائمين عليها بالمعيار الأخلاقي – القانوني.

ولترجمة هذه المبادئ النظرية على أرض الواقع، وللحفاظ على دوره السياسي- الاجتماعي، وتحقيق إعادة انبعاث نفوذه الشعبي، وتأسيساً على مسؤوليته التاريخية، لا بديل للبعث من أن يتحمل مسؤوليته في محاربة الفساد في إطار مشروع نهضوي أخلاقي، وصولاً إلى الحد من الضعف الذي ألحقه الفساد بدولة القانون، وبسمعة وهيبة وقوة مؤسسات الحكم المختلفة، ففي إطار جدلية العلاقة بين السلطة الحاكمة والدولة، وفي أي مجتمع، وفي أي دولة، قوة السلطة هي قوة للدولة، فالسلطة القوية تستطيع تحقيق الاستقرار السياسي، وشد العصب الوطني، ورفع وزن الإرادة الوطنية.

ولكن بالمقابل، العكس صحيح أيضاً، وبالدرجة نفسها، فقوة الدولة هي قوة للسلطة أيضاً، وعلى سبيل المثال؛ أي فائدة وقوة يحققها مجلس إدارة ممسك بخيوط السيطرة والقرار في مؤسسة ما، إذا كانت هذه المؤسسة التي يديرها ضعيفة؟! لذلك، وبالقدر الذي تقوى فيه مقدرات السلطة، يجب أن تقوى أيضاً مقدرات الدولة، فإن قَوي أحد طرفي المعادلة على حساب الآخر، فالضعف سوف يعود ويسري إليه إن عاجلاً أم آجلاً.

وضمن المنظور السابق لا بد لحزب يطمح في أن يبقى في موقع الريادة شعبياً ووطنياً من أن يعمل على زيادة المقدرات التي تصب في إطار تقوية البنى المؤسساتية للدولة، عبر تعزيز سيادة القانون في البعد المعنوي، وتعزيز ميزانية الدولة واقتصادها في البعد المادي، فمنظومة الولاء والسيطرة التي تدعم قوة السلطة السياسية لا بد أن توازنها منظومة ولاء وسيطرة، تدعم قوة الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية على حد سواء، وترفد خزينتها بأسباب القوة والملاءة عبر تحقيق العدالة الضريبية، ومكافحة التهرب الضريبي الذي ربما يصل إليه الكثير من أصحاب رؤوس الأموال والمصالح الكبيرة عبر معبر الفساد.

إن البعث مدعو اليوم لأن يكون طليعة أخلاقية على المستويين المؤسسي والاجتماعي، بعد أن مارس لعقود طويلة دوره كطليعة نضالية، فهو مدعو لأخذ زمام المبادرة في إنتاج مشروع وطني نهضوي أخلاقي يملأ الفراغ الناجم عما يستحب البعض أن يسميه «موت الإيدولوجيا»، فالإيدولوجيا وإن تطورت أو تحورت، فهي لا تموت، والمطلوب من العقيدة السياسية أن تعيد صياغة مفرداتها وأولوياتها، لا أن تصل إلى سن اليأس السياسي، أو أن تصل إلى إعلان موتها السريري، والمشهد الحالي يوحي بأن إحجام البعث عن ريادة مشهد الضرورة الوطنية ومشروع الانبعاث الأخلاقي سيدفع به تدريجياً نحو إطار وظيفي شكلاني يجعل منه إطاراً لتشكيل القوائم الانتخابية، لا أكثر ولا أقل.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن