في حمأة حرب إبادة جماعية لا تبقي ولا تذر غير مسبوقة في العصر الحديث تستعر المعارك الأخلاقية والاصطفافات السياسية وتبرهن الكلمة أن لها دوراً رائداً في توصيف وتصنيف الحدث وبالنهاية في تقييمه ومكانته التي سيحملها في الحاضر والمستقبل.
في حمأة استخدام لغة ومفاهيم ومصطلحات كقناع زائف لما يجري بدلاً من أن تكون كاشفاً له يخطف جوناثان غلايزر الأضواء من خلال كلمته المقتضبة بمناسبة فوز فيلمه «منطقة الاهتمام» بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. قال غلايزر: «فيلمنا يُري أين يقود التجريد من الإنسانية في أسوأ حالاته. الآن نقف هنا كرجال يرفضون يهوديتهم وخطف الهولوكوست من قبل احتلال قاد إلى نزاع لعدد كبير من الناس الأبرياء. سواء أكان من الضحايا للسابع من تشرين الأول في إسرائيل أم الهجوم المتواصل على غزة، كل الضحايا، هذه الإنسانية، كيف نقاوم»؟
مع أن لغة غلايزر مخففة إلى حدّ بعيد لأن الاحتلال الصهيوني لأرض شعب فلسطين لم يقد إلى «نزاع» فقط وإنما قاد إلى حرب إبادة وتطهير عرقي ومحرقة غير مسبوقة بحق الفلسطينيين مستمرّة منذ 75 سنة مملوءة بالمجازر والتهجير والقمع والحرمان من الحرية وحقوق الإنسان، ومع ذلك فإن مجرد إشارته إلى موقف ضمني وتساؤل عمّن هو مسؤول اليوم عن تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم مقارنة بالنازيين الذين هم مسؤولون عن تجريد اليهود في الماضي من إنسانيتهم، أثار حفيظة الصهاينة وبدأت التعليقات والمقالات بأن «هوليود» كان يعرف في الماضي التمييز بين الجيد والسيئ.
مع ذلك فإن مجرد إشارة غلايزر ولو بين السطور إلى مقارنة ما تعرّض له أبناء جلدته في عام 1938 وما يتعرض له الفلسطينيون على أيدي الصهاينة، هو أمر مهم، كما أن موقفه هذا يكتسب أهمية لكونه وضع إنسانيته فوق كل اعتبار مع ما يحمله من تاريخ وعمل في سياق مختلف وتاريخ أنجب مناقضة صارخة مع نفسه. كما أن موقف غلايزر يأتي داعماً ومهمّاً لكل الحركات التي انطلقت في الولايات المتحدة والغرب لتسليط الضوء على المحرقة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين وخاصة مواقف الجاليات اليهودية التي عبّرت وبقوة عن رفضها لما يتم ارتكابه من جرائم بحق الفلسطينيين.
من خلال مقارنة بين الأصوات الحرّة في العالم والمنتمية لكلّ الطوائف والأديان ودعواتها المتكرّرة لوقف الإبادة فوراً، مع مواقف الحكومات الغربية والتي تستخدم اللغة كقناع لشراكتها في هذا العدوان القذر على النساء والأطفال وهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها، نستنتج أن الهرم السياسي في الغرب، يقف على رأسه اليوم الصهاينة الذين يؤمنون بالإبادة وبالعودة للحقبة الاستعمارية وجرائمها ضد الإنسانية. فلا وجود لقادة سياسيين ولا لأصحاب مواقف أو كلمة ولا لموقف شجاع مهم وصارخ. والمدقّق في اللغة التي تستخدمها الإدارة الأميركية اليوم، يتمنى لو التزمت الصمت، لأن كل ما تقوله لا معنى ولا قيمة له سوى لتبرير ما تقوم به إسرائيل من جرائم إبادة جماعية ضد أطفال ونساء غزة والتغطية على شراكتها المالية والعسكرية واللاأخلاقية بهذه الجرائم. فماذا تعني عبارة: «واشنطن تدعم عملية محدودة» في رفح؟ أولاً هي ليست عملية بل عدوان وحرب وجرائم إبادة، وما هي حدود هذا العدوان؟ كم من المقبول أن يكون عدد الضحايا من الأطفال والنساء الأبرياء حتى يعتبر هذا العدوان محدوداً؟ هل إبادة غزة وتدمير بنيتها التحتية كاملة وقتل وتشريد مليوني فلسطيني يقع ضمن المحدودية التي تتشدّق بها إدارة بايدن الصهيونية؟ وهل «الجزر الإنسانية» المبتغاة لوضع الفلسطينيين بها تشبه المخيمات التي مازالت موجودة في الولايات المتحدة لبقايا السكان الأصليين والتي تقف شاهداً حياً على أكبر انتهاك لإنسانية الإنسان وتجريده من إنسانيته في التاريخ؟ وماذا يعني أن تدعم إدارة بايدن إسرائيل في ملاحقة أهداف ذات قيمة عالية لحماس في رفح وتحتها طالما أن إسرائيل تتجنّب عملية واسعة النطاق؟ ما هو مدى جرائم الإبادة الذي يمكن اعتباره واسع النطاق إذا كان كل هذا العدوان على مدى مئة وستين يوماً والذي شهد أبشع الجرائم بحق إنسانية الإنسان ليس واسع النطاق بعد؟ ومن يريدون أن يوهموا بأن الهدف هو حماس بل الهدف هو فلسطين وعروبة فلسطين وعروبة العرب جميعاً ومستقبل العرب الذين يتمّ قتلهم وهم أجنّة في بطون أمّهاتهم فأي إبادة تفوق هذه الإبادة؟
فمنذ بدء هذا العدوان المجرم والعدو وأعوانه يدحرجون لغتهم للإمساك بناصية رأي القارئ والمشاهد، فبدلاً من المطالبة العالمية بوقف جرائم الإبادة الجماعية نهائياً على غزة والانتقال إلى التفاوض الجدي، استبدل العدو وقف جرائم الإبادة العرقية بكلمة «هدنة» أي إن الإبادة مستمرّة وأن أي توقف لها سوف يعني العودة إليها في الوقت الذي يختاره عتاة الصهاينة الذين يؤمنون بالإبادة عقائدياً، والآن وبعد أسابيع من الحديث عن هدنة من دون أي جدية من قبل مجرمي الإبادة للتوصل إليها فعلاً، استبدل كلمة هدنة بكلمة استراحة «Respite» وكأن القاتل قد أعياه التدمير والتهجير والقتل وسفك دماء مئات الآلاف، 72 بالمئة منهم، من الأطفال والنساء، وهو بحاجة إلى استراحة ليعيد استجماع قواه واستئناف القتل مرة أخرى بعد أن يرتب إجراءاته لتحكم على الأرواح البريئة لأطفال ونساء فلسطين بالزهق والموت.
وبالإضافة إلى استخدام مجرمي حرب الإبادة الصهيونية كل شبكات الدعاية والإعلام التي يمتلكونها في العالم، فهم يلقون أيضاً المنشورات في جنوب لبنان بهدف خلق بلبلة بين صفوف الأهالي أو دفعهم للتفكير بما يخدم مصالح العدو وتعزيز قدرته على ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة التي يغطيها الغرب إعلامياً وسياسياً ويدعمها عسكرياً، ويقود مجرمو الإبادة العرقية المعارك في المجلات والصحف العالمية ليتهموا كل من يعارضهم بمعاداة السامية ويخادعوا وجدان الناس في العنوان والنص والسياق مع التباكي المخادع والمقصود على التطرف اليوم في معاداة الكيان الصهيوني، فبعد استقالات مهمّة احتجاجاً على مقال الكاتبة اليهودية جوانا شين والذي يدعم الصهيونية وكل ما تقوم به من جرائم يأتي العنوان ليقول إن المقال يدعو إلى العيش المشترك.
درجة التشويه في المصطلح واللغة ترقى إلى درجة حرب إبادة حقيقية يخوضها الإعلام الصهيوني والمتصهين في أي مكان للتغطية على جرائم الإبادة وحياكة سردية تاريخية تحمّل الـ7 من تشرين الأول كل أوزار جرائم التطهير العرقي متناسية 75 عاماً من الاحتلال العنصري الصهيوني لأرض وشعب فلسطين والذي استهدف منذ البداية إبادة الفلسطينيين في كل فلسطين وترهيب الأصوات الداعمة لهم في أي مكان في العالم.
إذا كان اللـه سبحانه وتعالى قد خصّ العرب «بكتاب عربي مبين» وكانت أول كلمة لرسوله صلى اللـه عليه وسلم «إقرأ» وهذه ليست فقط إشارة لقراءة الكتاب، وإنما لقراءة الحدث والمجتمع والتاريخ والماضي والحاضر والمستقبل، فأين هي القراءة العربية الصحيحة والدقيقة لكل ما يعتري هذه الأمّة من أحداث، وأين هي السرديات العربية الأصيلة الطامحة للوصول إلى قلوب وأفئدة العالم دفاعاً عن مظلومية يندى لها جبين الإنسانية وعن أطفال لم يُسمح لهم أن يعيشوا كي يحلموا بل قُتلوا هم وأحلامهم في بطون أمّهاتهم؟ وأين هو العمل المدروس والممنهج لحملة الفكر والقلم اليوم؟ فالمعركة مستعرة ليس فقط على أرض فلسطين وإنما في كل أنحاء العالم وعلى كل المستويات، وكل مساهمة بها لإعلاء الحق ودحر العدوان هي مساهمة مهمة وضرورية بغضّ النظر عن حجمها وامتدادها، فحبات المطر تخلق سيلاً جارفاً وكذلك يجب أن يستخدم كل من هو قادر على خلْق جملة أو لوحة أو مشهد أو موقف أن يستخدم خلْقه لدعم هؤلاء الناس العزّل والانتصار لهم.