ثقافة وفن

حنا مينه عالم من الإبداع بين مدينته والبحر … أراد المستقبل أن يكون أكثر عدلاً وينصر البسطاء والمظلومين

| مايا حمادة

أبدع الروائي الكبير «حنا مينه» بتقديم نتاجات أدبية حول ما يتقنه حقاً، واعياً بأهمية فتح الطريق أمام جيل الشباب القادم بكتابة وقراءة الرواية، ونصح ألا يخافوا المعاناة أبداً بل أن يتملكوا الجرأة ويجابهوا الحياة بخيرها وشرها كما عاشها هو بكل بؤسها وشقائها، ليمنحنا نصوصاً شامخة فاتنة على أمل أن يكون المستقبل أكثر عدلاً وإنسانية لنصرة البسطاء والمظلومين، فصور أعمالاً حية في الوجدان العام والضمير الثقافي، وبقي للناس والوطن كل ما هو فريد ونبيل عن الحياة والعالم والأشياء.

تجارب ومشكلات تراكمية

شاهد «حنا مينه» الواقع المر القاسي بعينيه وقدمه عبر أدبياته التي تتحدث عن تصوير المصاعب والتحديات التي تنوي عودة الأدب إلى عتبات القصور والمديح والرثاء، فقد انتقد الاتجاهات الرجعية التي تحط من العقل بجرأته وعبقريته حيث قال «إنكم أيها السادة تعرفون مكانكم، لأن أدبكم ليس أدباً عربياً، وأن هذا الأدب الذي تزعمونه بمنزلة ورقة صفراء على الشجرة» فكان أدبه بمنزلة المدافع عن مصالح الشعب المفعم بالأفكار الإنسانية التي عكست مشاكل البحارة والملاحين، فلم يكن الأمر مجرد صدفة عابرة وإنما كان ناجماً عن طبيعة الكاتب نفسه ومن واقع مرير خاضه وهو يحكي ويروي عن حياة أهله في البحر ويعده جزءاً لا يتجزأ منه، ليطرح حلولاً موضوعية في التخلص من الفقر والجهل، كما سجل الكاتب صفحة جديدة ومهمة في تاريخ الأدب السوري المعاصر وخصص نتاجاته الروائية لتصوير أوضاع العمال والفلاحين كروايات «المصابيح الزرق، نهاية رجل شجاع، البحر والسفينة، والمرفأ البعيد» وغيرها.

شخصيات كثيرة أحاطت بـالكاتب «مينه» تبدو وكأنها معروفة للجميع أو قد التقينا بها يوماً ما، شخصيات كثيرة أحبها القارئ وتعاطف معها جداً فهو ذلك الإنسان العصامي الذي عمل بكل المهن منذ طفولته مع أحلامه وآماله المؤجلة في شبابه ليسجل اسمه في عالم الأدب والفكر، وببراعة كبيرة جداً تنقل ابتداء من عشرينيات القرن الماضي بسلاسة مع تغيرات الزمن وتحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية من دون أن يسمح للملل أو إقحام المصطنع للنفاذ إلى أدبه ورواياته المؤثرة.

ثلاثية «حنا مينه» (بقايا صور-المستنقع- القطاف) لا تبدو يوميات أو مذكرات روتينية تقليدية بل إنتاج روائي متكامل شديد الواقعية نابع من الأحداث الحقيقية وهو عبارة عن تحفة أدبية فريدة فيها كل سمات العمل الخالد كلغة راقية وصور شديدة الجمال، إضافة إلى تركيزه الآسر على ثقافة الأماكن والأزمنة والمجتمع التي تدل على تجارب الحياة بكل حالاتها.

تعزيز رسالته وتكرارها

التكرار الإيجابي والخلاق موجود في عدة روايات منها «الشراع والعاصفة والثلج يأتي من النافذة» حيث قدم الكاتب الكبير «حنا مينه» حياة العمال الكادحين من جهة والبرجوازيين أصحاب المصالح من جهة، ويبين الحس العمالي الذي ينسجم كلياً مع المصالح الوطنية كما وصف ظروف العمل عنده بشكل دقيق ومفصل ناجم عن كمية الحزن والمعاناة المريرة حتى في أبسط التفاصيل التي تتناول التحديات التي يلاقيها العامل في الكدح من أجل نيل لقمة العيش، لم نجد في الأدب العربي وصفاً لحالة المثقف الذي تجبره الظروف على العمل بأعمال قاسية لم يعتد عليها سابقاً، لذلك استفاد من تجربته وتجربة رفاقه المقربين، وهذا التكرار المتنوع بين الفرح والحزن يهدف لخلق نمط إيقاعي ولإبراز موضوعات أو عبارات مهمة تأكيداً منه على النقاط الأساسية التي نادى بها الكاتب دوماً، ولتعزيز رسالته من خلال تصويره لحالات من الصراعات عاشها كل عامل وفلاح، غالباً ما كان يقص على هؤلاء الزوار الذين كان يلتقيهم شتى الأقاصيص الطريفة في حياتهم ليتمكن حنا مينه من الإلحاح وبشدة في إعادة بث روح الصمود فيهم، حيث تعلم معنى النضال العنيد من هؤلاء الناس البسطاء فكتب كل ما شاهده وسمعه وعاشه لتشجيع القراء على التفكير النقدي حول المشاكل والهموم المجتمعية ولتجسيد معاني التعاطف والتفاهم، فنالت جل أعماله اهتمام القراء داخل سورية وخارجها وخصوصاً مع استمراره بعكس الروح الوطنية في نتاجاته الروائية.

أحب البحر بقلب المغامر

هو ذلك المثقف الذي كان القارئ قبلته الأبدية ليرتقي به ولذلك عاش أجواء فيها كل التناقضات وجميع معاني المد والجزر، فقد تعرف إلى البحر في أسوأ حالاته وفهمه عندما سافر للصين، لم يتوان عن الخوض مع الأمواج العاتية، فسبح ودخل مناطق خطرة لم يهبها بقلب رجل شجاع، وأحب البحر كوسيلة لعيش المخاطر والمغامرة المليئة بالتحديات ولاسيما مع الذات، لذلك كان البر باعتقاده هو جزء من البحر، بمعنى أن البحر فيه صعوبات وشقاء كحياة البر تماماً، لذلك تحداها بكل إصرار فكسر الصمت بواقعيته التي اعتمدها في رواياته، لذلك هو من أهم كتاب الرواية في سورية والواقعية هي الأساس والمنطلق في أدبه، بتحويل الواقع إلى ما يحلم به فهو لاشك بأنه صانع الأحلام فاستطاع أن يخاطب عامة الشعب بنمطية خاصة به وعلى مستوى الوطن العربي ككل لكونه ابن البحر، كان يتمنى أن ينقل البحر لدمشق وكان يحب فيروز والشاميات بكامل تفاصيلها وتكلم عن دمشق كثيراً، لكن الواقعية كانت مرتبطة بمدينته ارتباطاً وثيقاً بمبادئ الوطن وعاداته وتقاليده، فكان إنساناً بكل معنى الكلمة ساعياً للارتقاء بالمجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن