قضايا وآراء

مذابح التجويع من بريطانيا إلى إسرائيل

| تحسين حلبي

في 17 آذار الجاري أرادت الكاتبة الأميركية كاثي كيللي، أن يتذكر العالم ما فعلته حرب التجويع التي شنتها قوات الاحتلال البريطانية على إقليم بلفاست الإيرلندي في عام 1845 والذي أدى إلى موت مليون من الإيرلنديين خلال أعوام من سياسة الحصار والتجويع، فتحت عنوان «عندما يصبح التجويع سلاحاً فإن نتيجته تصبح عاراً» تكشف كيللي في مجلة «أنتي وور» أن المؤرخة الأميركية من أصل إيرلندي، كريستين كينيلي، جاء في كتابها عن مذبحة التجويع البريطانية هذه أن آخر وجبات استطاع الايرلنديون تأمينها قبل موتهم كانت من العشب والنباتات البرية الخضر، إلى أن مات مليون ايرلندي من التجويع والأمراض التي رافقته بوحشية ومنهجية».

وإذا كانت الشعوب وحكوماتها لم تعرف وتسمع بجريمة التجويع البريطانية الاستعمارية هذه إلا في كتب التاريخ بعد سنين كثيرة بل بعد عشرات السنين من وقوعها، فإن جريمة التجويع والقتل والدمار التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول الماضي ضد مليونين ونصف المليون من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة شاهدتها خلال ستة أشهر كل شعوب العالم وحكوماته بكل أحداثها ووحشيتها ونتائجها في قتل الأطفال والنساء، والكل يرى كيف يجمع الفلسطينيون ما بقي من الأعشاب والنباتات البرية الخضر في أراضيهم لاستخدامها طعاماً لأطفالهم، وإذا كانت جريمة التجويع البريطانية من مسؤولية بريطانيا ومن تحالف معها، فإنه من المؤكد أن كل حكومات العالم المتحالفة مع الكيان الإسرائيلي، والتي دعمت كل أشكال جرائمه ضد الشعب الفلسطيني في القطاع، كانت شريكة مباشرة ومتواطئة مع حرب التجويع هذه.

أما شعوب العالم فمعظمها إن لم يكن كلها كانت قد أدانت بشكل علني بوساطة مسيراتها وبيانات منظماتها الشعبية والمدنية هذه المذابح وطالبت بصوت صارخ بالعمل على إيقافها فوراً ومنع إبادة شعب، ومثلما يتحمل هذا الكيان هذه الجرائم فإن بريطانيا التي أبادت مليوناً من الإيرلنديين في القرن التاسع عشر، تتحمل المسؤولية نفسها، والأدلة على هذه المسؤولية كثيرة وواضحة لأنها الدولة الاستعمارية التي صنعت الصهيونية لليهود الأوروبيين عام 1840 على يد أنتوني آشلي كوبر (ايرل شافتسبيري) وهنري جون تيمبيل (لورد بالميرستون) رئيس حكومة بريطانيا عام 1855 بعد شن حرب التجويع ضد الإيرلنديين ثم توالت الحكومات التي سلحت اليهود ونقلتهم إلى فلسطين بعد احتلالها عام 1920 وحوّلتهم إلى جيش احتلال يحاصر ويقتل أصحاب الأرض لإنشاء كيان يخدم السياسات الاستعمارية في المنطقة، وبهذا الشكل أصبح الكيان قاعدة عسكرية بنظام وحشي تستخدمه الدول العظمى وترثه الولايات المتحدة من بريطانيا لتوظيفه بعد ازدياد مصالحها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وهي التي لم تطلب منه حتى الآن بإيقاف مذابح القتل والتجويع، بل تستمر بإرسال السلاح والذخائر لجيشه، ولو توقفت عن هذه المهمة لانتهت كل مذابحه واحتلاله، وهذا ما يعني أن الشعب الفلسطيني بمقاومته وصموده يدافع عن نفسه ضد جيش الكيان وضد كل الدول التي تقدم له السلاح والذخيرة وشريان الحياة الاقتصادية منذ عام 1948.

ومثلما كانت بريطانيا قد صنعت كيانات استيطانية للأوروبيين في إفريقيا في القرن التاسع عشر ثم هزمتها شعوب إفريقيا وعاد معظم الأوروبيين المستوطنين إلى أوطانهم التي جيء بهم منها، أصبحت إسرائيل هي الكيان الوحيد والأخير الذي بدأ يتآكل دوره في الأراضي الفلسطينية والمنطقة، وعلى غرار انتزاع الشعب الإيرلندي لحريته من الاحتلال البريطاني الاستيطاني في بلفاست، لا بد للشعب الفلسطيني من انتزاع حريته وحقوقه من آخر معاقل الاستعمار الاستيطاني البريطاني في المنطقة.

عاموس عوز، وهو أهم مفكر وروائي إسرائيلي، فاجأ جميع المديرين والباحثين في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 17 شباط عام 2015 أي قبل تسع سنوات، حين تحدث عن مستقبل إسرائيل في ندوة أعدوها له نقتبس منها: «أريد في هذا الصباح أن أتحدث عن أحلام أصبح من الأفضل التحرر منها وسأبدأ بالحديث عما أعتبره موضوع حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل، فإذا لم نسمح بنشوء دولتين هنا، فإن دولة واحدة ستنشأ بدلاً من ذلك، وهذه الدولة الواحدة ستكون فلسطينية من النهر إلى البحر، ولاحظوا أنني لم أقل دولة مزدوجة القومية، وحين يحدث هذا فلن أحسد أبناءنا وأحفادنا فيها، ولتعلموا أننا إذا لم نوافق على دولتين فإن دكتاتورية إسرائيلية ستظهر هنا على يد اليمين الأكثر تشدداً واليمين الصهيوني المتدين وسوف تقوم آلة هذه الدكتاتورية باضطهاد الفلسطينيين وكذلك كل من يعارضها من اليهود، لكنها مع ذلك لن يطول بقاؤها لأنها ستظل تمثل أقلية يهودية ضد أكثرية فلسطينية، وسوف تقوم بأعمال دموية وتتعرض لمقاطعة عالمية»، وأضاف عوز: «من المتوقع أن نجابه بسبب ذلك سلسلة من حرب لبنان الثالثة والرابعة والخامسة وسلسلة حروب متتالية على غرار ما قمنا به في قطاع غزة، وانتفاضة أو اثنتين في الضفة الغربية».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن