قضايا وآراء

نتنياهو يقفز على حبال التناقضات

| محمد نادر العمري

في الوقت الذي نشرت فيه منظمة «فورينسك آركيتك» التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها وتعنى بالتحليل الجنائي لسلوك ومواقف الدول العنفي، تقريرها حول ما سمته «إرهاب الجغرافيا» وهي الإستراتيجية التي تبنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ومن خلفه حكومة اليمين المتطرفة وما تم إنشائه بعد عملية طوفان الأقصى ضمن ما عرف بمجلس الحرب، تتسارع وتيرة ما تصدره وسائل الإعلام الأميركية المكتوبة والمرئية والمسموعة عن امتعاض أميركي من تعنت رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتمسكه بموقفه المتمثل باستمرار العدوان على قطاع غزة.

هذان التطوران تخللهما أحداث وتفاصيل داخلية إسرائيلية على المستويين العسكري والسياسي عكسا طبيعة التعقيدات التي سادت وتسود الأجواء الداخلية، كان أبرزها يتمثل في حدثين مهمين، الأول هو ما انبرى للحديث عنه في تصريح على وسائل الإعلام قائد الفرقة 98 بجيش الاحتلال الإسرائيلي المقدم دان غولدفوس داعياً الساسة الإسرائيليين للتوحد تقديراً لتضحيات قوات كيانهم المحتل، والثاني المتجلي في صورة الانقسام الحاصلة على مستوى السياسي بين المؤيد لعمل عسكري في رفح وآخر مطالب بإنجاز صفقة تمهد لعودة الأسرى الإسرائيليين لدى الفصائل المقاومة في قطاع غزة.

هذه الأحداث الأربعة بأشكالها ومحدداتها المختلفة ربما يقرؤها البعض مجرد أحداث روتينية، إلا أنها تشكل حلقات متسلسلة من المشهد الكلي الذي تسوده التعقيدات والفوضى المبعثرة في قراءة المشهد ويمكن الاستناد لذلك من خلال أبعاد هذه الأحداث الأربعة وفق الآتي:

بالنسبة لتقرير مؤسسة «آركيتك» المبني على رصد ما تم إصداره من حكومة الاحتلال وتم تطبيقه في الواقع العسكري، سواء كان ذلك من خلال دعوة الكيان الأهالي المقيمين في شمال القطاع للنزوح بشكل جماعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر منشورات ورقية خلال الأيام الأولى للعدوان، تم تحديد طرق النزوح عبر ما سمته إسرائيل طرقاً آمنة لمناطق آمنة، إلا أن هذه الطرق مثل طريق «صلاح الدين» تم استهداف المواطنين فيها بشكل مباشر، وهو ما حصل أيضاً على مستوى المناطق الآمنة التي حددتها حكومة الكيان بعدما قسمت القطاع لمناطق تجاوزت وفق خرائطها 623 منطقة إلا أن هذه المناطق تم استهدافها على غرار منطقة المواصي.

بالعموم فإن هذا التقرير الصادر عن منظمة دولية غير حكومية وتتخذ مقراً لها في أبرز إحدى الدول الداعمة لإسرائيل، هو أمر إيجابي ويوثق بالمعطيات والبيانات والشهادات والصور ما تم ارتكابه من جرائم ضد الإنسانية من قوات الاحتلال، إلا أن التقرير أغفل عدة نقاط مهمة تتمثل أهمها في:

– إن الإبادة الجماعية وإرهاب الجغرافيا لا ترتكب فقط بحق قطاع غزة ومواطنيه، بل حتى داخل الرقعة الجغرافية في الضفة الغربية والقدس المحتلة من خلال توسع رقعة الاستيطان داخل مدن الضفة وهو موثق ومستمر، وربما بالعودة للمراحل الزمنية والفترات السابقة منذ عام 1948، ندرك أن إرهاب الجغرافية تمثل في إصدار القوانين السامحة لليهود بالتملك واستملاك أراضي الفلسطينيين وإقامة الكيبوتسات ونشر المستوطنات وهدم المنازل وسرقة الأراضي إلى جانب عسكرة كل فلسطين المحتلة ضمن ما يعرف بالحدود التقليدية أو الحدود المرنة مثل جدار الفصل أو نشر الحواجز العسكرية.

– ما سمته المنظمة في تقريرها«هندسة عمليات الإبادة الجماعية» حددت فترة زمنية متمثلة في مرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى، إلا أن التقرير أغفل بصورة مفضوحة هذه الهندسة تجاه أهالي غزة منذ عام 2005، تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، إذ إن عملية الإبادة بدأت مع فرض الحصار على القطاع منذ ذلك التاريخ، وشن عدة اعتداءات على القطاع قبل عملية طوفان الأقصى وصولاً لبناء جدار إسمنتي لفصل القطاع عن مستوطنات غلاف القطاع.

– هذا التقرير على الرغم من أهميته في فضح إسرائيل مادياً ومعنوياً من حيث وجود النية والإرادة لارتكاب الإبادة وتوثيق ذلك بما يتيح إدانة هذا الكيان قانونياً وسياسياً وأخلاقياً، إلا أن التقرير لم يصدر إلا بعد ستة أشهر من بدء العدوان على القطاع وبالتزامن مع اتساع رقعة الخلاف الغربي مع حكومة تل أبيب على أولويات العدوان وليس توقفه، وهو ما يعني أن المنظمة لم تصدر هذا التقرير إلا بعد نيلها الضوء الأخضر من عواصم بعض الدول مثل واشنطن ولندن لإصدار التقرير للضغط على حكومة نتنياهو للرضوخ للمطالب الغربية فيما يتعلق بإدخال المساعدات، وما يؤكد ذلك يكمن في افتقار التقرير لأي توصيات لمحاسبة إسرائيل.

لذلك فإن الربط بين هذا التقرير وما أصدرته وسائل الإعلام الأميركية مثل «واشنطن بوست» التي ذكرت في أحد عناوينها أن الرئيس الأميركي «جو بايدن وجد نفسه بعد أكثر من 5 أشهر متورطاً بشدة في حرب لا يريدها»، جاءت بعد يومين فقط من دعوة زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر، وهو أكبر مسؤول أميركي يهودي منتخب، إلى إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل منتقداً بشدة رئيس الوزراء نتنياهو ووصفه بأنه عقبة أمام السلام.

هذا الربط يؤكد لنا حقيقتين الأولى أن إدارة بايدن تريد تحقيق مكاسب داخلية انتخابية بعد تراجع شعبية مرشحها الديمقراطي، لذلك فإن خلافها ليس مع إسرائيل بل مع وجود نتنياهو واليمين في السلطة، فإعلان صحيفة «إسرائيل اليوم» وصول نحو 35 ألف طن أسلحة وذخائر من الولايات المتحدة على متن أكثر من 300 طائرة ونحو 50 سفينة، منذ 7 تشرين الأول الماضي يؤكد هذه الحقيقة، في حين تتجلى الحقيقة الثانية في عدم قدرة واشنطن على إحداث تغيير سياسي في إسرائيل على غرار ما حصل عام 2021، لذلك تسعى إلى إحداث هذا التغيير أو التهديد به عبر استقطاب شخصيات داخلية مثل بني غانتس أو توظيف تصريحات شخصيات مقربة وداعمة لإسرائيل لقلب الطاولة على نتنياهو.

بينما العامل الداخلي ولاسيما تصريح قائد الفرقة 98 فإن أبرز أبعاده تكمن في محاولة رمي القادة العسكريين بالكرة إلى الجانب السياسيين وإلقاء المسؤولية عليهم لعدم القدرة على إحداث إنجاز ميداني في خطوة استباقية لعدم فسح المجال للساسة باتخاذ هذه الخطوة أو لتفادي لجان التحقيق المزمع تشكيلها بعد انتهاء العدوان، ولاسيما أن هذه الفرقة عجزت عن تحقيق أي من أهدافها في خان يونس منذ أربعة أشهر ونيف، كما أنه أول تصريح في تاريخ الكيان على المستوى العسكري وعلى هذا المستوى يطرح على وسائل الإعلام دون مشورة القيادة العسكرية وهو ما دفع رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي لتوبيخ المقدم غولدفوس قبل أيام من إعلان الأول نيته إجراء تعيينات جديدة على مستوى العقداء وسط انقسام داخلي من أهداف هذا التغيير.

أما الحدث الرابع الذي تسارع بعد طرح المقاومة لردها على قبول التهدئة ووضع رؤيتها للإطار العام لتنفيذ الصفقة ضمن مراحل ثلاث وإبدائها مرونة فيما يتعلق بتنفيذ بنود الاتفاق ولكن ضمن معايير وضوابط وضمانات واضحة، أرخى بظلاله على الموقف السياسي الداخلي لإسرائيل، إذ من المؤكد أن ما طرحته المقاومة من مقاربات للاتفاق عدَّ بمثابة رمي الكرة للملعب الإسرائيلي الذي شهد بدوره انقساماً بين المؤيد لعقد صفقة تعيد الأسرى وتنهي حياة نتنياهو السياسية، وتيار آخر تزعمه كل من وزير الأمن ايتمار بن غفير ووزير المالية سموتريتش إلى جانب وزير التراث، طالبوا ببدء العمليات العسكرية في منطقة رفح بعد مصادقة الكبينت على خطط هذا الاجتياح.

من خلال ما تقدم فإن تعقيدات الأحداث والتطورات الأربعة السابقة، لم تؤثر في وضع نتنياهو دون التأكيد على استغلالها، فالتقرير ليس هو الأول من نوعه ولاسيما أن مخرجات ما طالبت به المحكمة الدولية من إجراءات وقائية تدبيرية لم تنفذ رغم امتلاك المحكمة صلاحيات قانونية دولية تفرض وقف إطلاق النار في غزة، كما أن الموقف الأميركي بات واضحاً أنه ليس ضد تنفيذ إسرائيل لمشروعها واستكمال عدوانها بل هو موقف ضد نتنياهو وحكومة اليمين التي باتت تهدد مصالح واشنطن في المنطقة وتضطرها إلى المواجهة بما يعطل محادثاتها وتفاوضها غير المباشر لحل بعض أزمات المنطقة، كما أن تصريح قائد فرقة 98 يشكل بداية لتبادل الاتهامات حول تحمل المسؤولية وهو ما قد يقود لحملة استقالات واسعة داخل الجيش بما يساعد نتنياهو على تقديم قائمة تعيينات تصب لمصلحته في لجان التحقيق، أما الانقسام السياسي فبات حاجة لاستمرار نتنياهو في السلطة ولاسيما من خلال ادعائه باحترام مبادئ الديمقراطية التي أوصلت ائتلافه للسلطة من جانب والتلويح بتوظيف غضب المتطرفين المسلحين في حال إسقاط الحكومة وهو ما يدخل إسرائيل في دائرة العنف.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن