«الجلبيون» السوريون إذ يدخلون ردهات التفاوض
| عبد المنعم علي عيسى
سيعقد مؤتمر جنيف 3 الجمعة القادم أو بعد شهر فتأجيله ليس نهاية العالم كما يقول المتحدث باسم البيت الأبيض 5/1/2016، ليس بسبب ورود الأمر في القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن 18/12/2015 فحسب، بل لأن اللحظة السياسية الدولية لا تزال ترى وجوب إقلاع قطار التسوية السورية، ومن المقدر لتلك اللحظة أن تستمر طويلاً في رؤياها فالنار السورية باتت تهدد بأن تكون خارج السيطرة وهي تهدد بتكرار سيناريوهات عديدة مثل أيلول الأميركي 2001 وأيلول البريطاني 2008 وأيلول الفرنسي 2015 إذ لطالما أكدت التقارير الاستخباراتية الغربية والأميركية أن أحفاد بن لادن الآن هم في وضعية «الكاميكاز» التي تعني توجيه الضربة اليائسة الأخيرة دونما احتساب للنتائج التي يمكن أن تترتب عليها.
لن تستطيع الألغام التي ما انفكت الرياض تزرعها في طرقات جنيف أن تحقق الكثيرمما تصبو إليه هذه الأخيرة نظراً لأن هامش الخلاف الروسي الأميركي فيما يخص المعارضة والتسوية السورية لم يعد واسعاً بل إنه ضاق بفعل الأحداث إلى حدود لا تتيح حيزاً كبيراً للمناورة، صحيح أن المناخات المتولدة من القرار 2254 ليست مواتية للسعوديين إلا أن ذلك ليس هو الأهم ما دامت مواتية لمن يملك الـ«ريمونت كونترول» على الروبوت السعودي، ولذا فإن كم العراقيل الذي توجده الرياض ليس مقدراً له أن يحقق الكثير من المكاسب فلا الاستفزاز الذي تبدى بإعلان الرياض عن وفدها إلى جنيف لحظة دخول كيري ولافروف إلى اجتماع زيورخ 20/1/2016 بقادر حتى على فرض تأجيل طويل كما يطمح القائم بالفعل لعل المتغيرات الميدانية تكون هذه المرة في سياق خارج السياق الذي تسير فيه هذه الآونة، ولا «لغم» محمد مصطفى علوش ابن عم زهران الذي جاءت تسميته بـ«كبير المفاوضين» يمكن له أن يحقق غاياته عبر فرض وجوده أو المساومة عليه وهو لا يملك الـT.N.T الكافي القادر على إخراج قطار جنيف3 عن سكته أو إيقافه قبل أن يقلع من محطته الأولى.
احتوت تركيبة وفد الرياض على العديد من الأمور اللافتة لعل أبرزها هو أن السمات الجامعة لأعضاء الوفد لابد أن تكون أحد ثلاث: «الهوى السعودي» أو «الموكيه» نسبة إلى غرفة عمليات موك في الجنوب السوري أو الموقف المتشدد من الأكراد (كالعقيد المنشق عبد الباسط الطويل المتهم باختطاف العشرات من الأكراد في حلب 2013 وتسليمهم إلى السلطات التركية بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الكردستاني أو إطلاق سراح بعضهم بعد أخذ الفدية التي وصلت في مرات عديدة إلى بضعة ملايين من الليرات السورية).
الأمر اللافت الآخر أيضاً هو غياب حركة أحرار الشام عن التمثيل وهو أمر يؤكد انسحاب الحركة من الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض 10/12/2015، وهذا مؤشر على أن الصراع الداخلي الذي كانت تعيشه الحركة والمتمحور حول التسوية السياسية قد حسم لمصلحة التيار السلفي الجهادي المتشدد بزعامة أبو محمد الصادق مدعوماً من أبي قتادة الفلسطيني في مواجهة تيار الاعتدال بزعامة الأخوين نحاس.
الأمر اللافت أيضاً كان في الصمت الأميركي على تعيين عدد من الأسماء في الوفد في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكون هناك (فيتو) على تلك الأسماء مثل العقيد المنشق عبد الباسط الطويل الذي كان بطل عملية المستودعات المملوءة بصواريخ التاو والتي قام بفتحها أمام عناصر جبهة النصرة في إدلب أواخر العام 2014 عندما كان قائداً للواء المسمى ذي قار، وكذلك المقدم المنشق محمد العبود المتهم أميركياً بأنه كان وراء تسهيل العديد من ضباط الجيش الحر الدخول في تنظيم الدولة الإسلامية في دير الزور من خلال اجتراح آلية جديدة هي «المبايعة السرية» والتي لا تتأكد مهما تكن الشكوك حولها إلا لحظة أن يكون الغرض الأساسي منها قد تحقق.
تعود النزعة الجلبية السياسية في تسميتها إلى السياسي العراقي الشهير أحمد الجلبي الذي توفي مؤخراً 2/11/2015 في ظروف غامضة والذي كان قد أسس حزباً سماه المؤتمر الوطني العراقي في العام 1992 أي بعد الهزيمة العراقية أمام قوات ا لتحالف في الكويت كانون الثاني شباط 1991 وفي أعقاب سعي الاستخبارات الأميركية للتواصل مع النخب الثقافية والسياسية العراقية والذي كان يهدف إلى تأسيس كيان سياسي يمكن أن يكون بديلاً للنظام القائم في بغداد، كانت بدايات المؤتمر الوطني هزيلة جداً إلا أن دوره قد تضخم بشكل مفاجئ ودون مقدمات وهو ما أمكن رصده في المؤتمر الذي عقده في لندن كانون الأول 2002 في مؤشر كان يدل على وجود قرار أميركي باستخدام حزب الجلبي كمنصة للانقضاض على العراق الذي كان قد أضحى وشيكاً وهو ما حصل في آذار نيسان 2003.
شكلت الجلبية السياسية نزعة متكاملة أرادت لها واشنطن أن تكون عابرة للحدود الأمر الذي شهدناه في لبنان عندما ظهر الجلبيون اللبنانيون في أعقاب صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن أيلول 2004 والذين كانت مهمتهم استغلال وجهة الرياح الأميركية في المنطقة التي كانت تشير إليها بنود ذلك القرار، أما الجلبيون السوريون فقد كان أول ظهور علني لهم في إعلان دمشق 16 تشرين الأول 2005 دون أن يعني ذلك أن الكل في ذلك البنيان جلبي الهوى إلا أن السياق العام المسيطر على القرار كان كذلك بالتأكيد، فيما بعد تعثرت خطى هؤلاء ليظهروا من جديد في أتون أعاصير الربيع العربي تحت مسميات عديدة إلا أن نهجها العام هو نفسه لا يتغير وهو يقوم على أيقونة الاستقواء بالخارج لخلق متغيرات داخلية بدءاً من خريف العام 2011 ذهب الجلبيون السوريون إلى رفع أيقونتهم “استدعاء التدخل الخارجي» بعدما تأكد لهم أن توازنات القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية في الداخل السوري لا تتيح لهم تكرار ما حصل في تونس 17 كانون الأول 2010 وفي مصر 11/2/2011.
اليوم وبعدما يزيد على خمسين شهراً من استجداء التدخل الخارجي يقف الجلبيون السوريون أمام خيار آخر مغاير تماماً لذلك الخيار الذي كانوا عليه وهم يحملون مشروعاً واحداً ووحيداً هو إمكان أن يعود وفدهم بمفاتيح السلطة من جنيف إلى دمشق (dirakt) أياً تكن المعطيات سواء في الميادين العسكرية التي لا تسير رياحها في صالحهم هذه الأيام أم في الميادين السياسية التي لم يفلحوا فيها هي الأخرى ولا استطاعوا الحصول على ثقة الغرب (والأميركان تحديداً) بأن يكونوا هم القائمين على حراسة مصالحه في المنطقة.
أرسل الأستاذ جورج صبرا الأمين العام الحالي للمجلس الوطني السوري ونائب رئيس وفد الرياض في 10/11/2012 رسالة إلى أحد أكبر أركان المعارضة كانت قد سربتها العديد من المواقع وفيها يقول حرفياً بأنه: «ثبت لديه بالدليل القاطع أن هذا المجلس (يقصد المجلس الوطني السوري الذي كان قد تأسس 2/10/2011) ليس سوى حلقة ضمن سلسلة تمسك بها الولايات المتحدة وتقوم بإدارتها بشكل غير مباشر في صراعها مع النظام في سورية وذلك من خلال الحكومتين السعودية والتركية» انتهى الاستشهاد بما كتبه الأستاذ صبرا وهو واضح وينم عن رؤية صحيحة في قراءة الحدث إلا أن ذلك لم يعفِ الأخير من أن يكون (جلبياً) بل قيادياً في تلك النزعة أيضاً وفي موقعه ذاك ظل متمترساً لا يتزحزح عنه قيد أنملة فالسياق العام لذلك التيار منضبط وفق الإيقاع الأميركي وهو أشبه بالهواية التي يمارسها العديد من الأميركان «السير على الأسلاك المرتفعة» والتي تكون الهفوة الأولى فيها هي الهفوة الأخيرة دونما استثناء.
الجلبيون السوريون اليوم على أعتاب جنيف3 وفي جعبتهم هم أميركي بتحقيق ما عجزت عنه الآلة العسكرية عبر الوسائل السياسية وفي هذا السياق ترد عشرات التقارير التي تشير إلى أن هناك العديد من المستشارين والخبراء الغربيين سيقومون بدور (الملقن) في المسرح.
مرة أخرى ستكون الدولة السورية في المفاوضات أمام حشد دولي تكالب عليها تماماً كما كانت عليه خلال السنوات الخمس الماضية في الميادين العسكرية.