ثقافة وفن

فخري البارودي والحاضر الافتراضي

| إسماعيل مروة

الحديث بالحديث يُذكر، ومن قبل تحدثت عن وهم البقاء والخلود، إلا إذا منحت السيرة المعنوية لأحدهم دون سواه صفات البقاء، وحين الحديث عن مقاومة المستعمر الفرنسي، وجماعة القمصان الحديدية، يقفز إلى الذهن مباشرة الزعيم الوطني المتفرّد فخري البارودي، متفرد لأن الذاكرة الجمعية والأدبية لم تحتفظ لشخصية بهذا الغنى والتنوع صورة في سجلاتها، ومتفردة لأن حياة فخري بك، ولغناها الشديد حفظت الكثير من الحقائق والطرائف والنوادر، وبعضها يتجاوز المنطق الذي يحكم حياة مثله من الأعلام.

ففخري بك البارودي صورة عصر، غاب أغلب معاصريه من الساسة والأدباء في طيات النسيان، وبقي هو شامخاً، فهو الأديب، والذي وإن لم يكن شاعراً متفوقاً كما الشعراء، إلا أنه خلّف نشيداً وطنياً قلّ نظيره في الأدب، بلاد العرب أوطاني، وهذا النشيد يمثل عقيدة البارودي الفكرية والقومية، وحوله نسجت حكايا أغلبها صحيح، ومنها ما كان من عبد الوهاب عندما كان ينوي تلحينه، وطلب تغيير كلمة من النشيد، لكن البارودي لم يسمح بهذا التغيير، وعلى الرغم من العلاقة الوطيدة بينهما، لم يتم العمل، ولم تحدث خصومة، لأن البارودي كان محباً مترفاً، ولا يتسلق على علاقاته، وله شعر وأدب، لكن هذا الأدب ليس مبارزاً للأدباء الذين أخلصوا للأدب، وبنشيد واحد احتل مكان الصدارة..

وجلساته في بيته المتحول إلى متحف اليوم في القنوات، كانت الجلسات التي تضم أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر الشباب أحمد رامي، وأغلب عباقرة ذلك الزمن من شعراء وأدباء ومغنين وملحنين، وعلى الرغم من أن البارودي يحمل لقب (الزعيم الشعبي) وهو كذلك حقاً، فليس نخبوباً، وليس من المتحذلقين، إلا أنه كان محجة لكل هؤلاء الكبار، جميعهم كان يأتي إلى دمشق لأمر ما، ولكنه إن لم يزر البارودي ويستمع له، فإن زيارته غير مكتملة، والنوادر التي يذكرها الناس عن حواراته وجلساته، سواء كانت حقيقية أو خرافية، فإنها تدل على غنى جلسته وأهمية أن تكون، وهذا الشعبي غير النخبوي كان عند العمالقة أكثر أهمية من أي شخصية، ولقاؤه كان أهم من أي لقاء..!

وبيته المتحفي اليوم، وعلى الرغم من انتقاله بالملكية، لأنه لم يعقب، ولظروف أخرى، لم تستطع الملكيات العديدة، ولا تحوله إلى متحف أن تغيّر من اسمه (بيت فخري البارودي) فهو الذي ملكه في الرخاء والضيق، في الحياة والموت، وكلما دخله الزائر يتخيل البارودي وسط المجلس، لأن سيرة البارودي غنية للغاية بحبه للناس والجلسات.

وتتحدث سيرته عن علمه بالموسيقا والصوت، وممن تبنى وحمل اسمه عملاق النغم والصوت وأسطورته صباح فخري، وما وصل إليه صباح أبو قوس بعد أن حمل اسم فخري بك علامة التعمق بالموسيقا والصوت يشهد بعظمة البارودي وخبرته وقدرته، وهو في ذلك يشبه أمير الشعراء أحمد شوقي حين تبنى موهبة محمد عبد الوهاب، وكلاهما عبد الوهاب وصباح فخري كان علامة الطرب والموسيقا والأصالة، ولا يزالان إلى اليوم..

في صدر المجلس فخري البارودي وتللو ظريفان من ظرفاء دمشق، ينديان حياة دمشق وجلساتها بالحب والطرائف والنكت، وهل ننسى أن تللو لم يطق العيش طويلاً بعد وفاة البارودي فتبعه إلى دار الحق، لأنه لا حياة لمتحابين إلا معاً..

ذواقة النغم، ذواقة في كل شيء كان فخري بك البارودي، فقد كان خبيراً بالطعام والشراب والحلويات، وليست خبرته تذوقية وحسب، بل كان يؤلف ويكتب في هذه الفنون، وترك مؤلفات في الأطعمة والحلويات صارت مراجع لكل من يقف أمام هذا الفن، ولو عدنا إلى مؤلفات فخري بك البارودي، فإننا لن نجدها مطبوعة ومجموعة، وحبذا لو قامت جهة رسمية أو خاصة بجمع هذا التراث بكل أنواعه: الأدبي والموسيقي والحياتي وفنون الطبخ وطبعه طبعة لائقة بزعيم شعبي سوري لن يتكرر، وزعامته كانت بذاته وإبداعه..

أعود إلى ما بدأته من الحديث بالحديث يذكر عن التقاطع بين صورة افتراضية للقمصان الحديدية، وحياة فخري بك البارودي، فالتاريخ القريب يقول بأن هذه القمصان كانت فكرة لفخري البارودي، وعلى أقل تقدير كان زعيمها وداعمها وحاميها في وجه المستعمر الفرنسي.. والتسجيلات بالصوت والصورة دوّنت إسهامات البارودي في المقاومة، في دمشق وقلعتها، وفي مواجهة المحتل دون أي شعارات أو فذلكة، بل بأسلوب شعبي آسر، وبعامية هي أعلى من أي لغة فصيحة أو معجمية في العالم.

من حق سورية أن تسأل: لماذا لا توثق حياة فخري بك البارودي في عمل كتابي ودرامي؟ ألا تحمل هذه الحياة الفنية غنى درامياً يجعلها في أكثر من ستين حلقة؟ قد يقول قائل: هذا محلي!! وفخري بك البارودي وحده ليس محلياً، ويكفي أن نصور علاقاته بكل الذين ورد ذكرهم، فما بالنا بالأخطل ورجال السياسة وشعراء مصر وكتّاب مصر، وكتّاب سورية، وفناني العالم العربي وسورية..

استحق فخري بك البارودي البقاء والخلود بكل معايير البقاء، وهو الذي ختم حواراً تلفزيونياً له من آخر حواراته (سورية ما بتموت.. والشعب السوري ما بيموت).

أعيدوا له تاريخه وقمصانه الحديدية ونشيده المتفرد وموسيقاه ومائدته، فما من شخصية أغنى سواء كانت حقيقية أو افتراضية..! ما الذي يمنع؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن