قضايا وآراء

تلاق تركي- عراقي على ضفاف «الأمن والثقة»

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن جرى الإعلان عن تأسيس «وحدات حماية الشعب» الكردية العام 2014 كذراع مسلحة لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي- PYD» الكردي، كانت النظرة التركية للفعل على أنه يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي انطلاقاً من معطيين اثنين، أولاهما هو أنها تعتبر «حزب الاتحاد الديمقراطي» نسخة سورية عن «حزب العمال الكردستاني- PKK» الذي قاد حرباً ضروساً في الجنوب التركي منذ العام 1984 وهي لم تنته باعتقال زعيمه عبدالله أوجلان العام 1999، وثانيهما أن الفعل، أي تأسيس «وحدات حماية الشعب» كان قد حصل بدعم وإسناد أميركيين، وكذا بتوجيه سياسي بدا واضحاً من خلال الذهاب نحو تأسيس «قوات سورية الديمقراطية- قسد» العام 2015 لإعطاء صبغة «غير عرقية» لذلك الكيان، وكذا من خلال التمدد نحو الرقة والسيطرة عليها العام 2016، ثم دير الزور التي شهدت أراضيها، شهر آذار 2019، آخر المعارك ضد تنظيم «داعش» في الباغوز، كان المرمى هنا يندرج في إطار أن يضم المشروع ثلاث مقاطعات لكي يصح إطلاق توصيف «الإقليم» عليه، أسوة بما حصل في شمال العراق 1991 و2003.

في أعقاب التدخل العسكري الروسي في سورية أيلول 2015، حدث صدام تركي- روسي كان عابراً إذ لطالما أدركت أنقرة أن المزيد منه سوف تكون له تداعياته «غير محمودة» عليها، ولذا فقد سارعت إلى استجداء المصالحة التي حصلت مع موسكو آب 2016، وبالتوازي، كانت أنقرة تعمل على مقايضة واشنطن بأوراق عدة فيما نقطة الاستناد في ذاك كانت على علاقة تاريخية تربطها مع هذه الأخيرة وهي تتمثل بعضويتها في «ناتو»، وما سبق أتاح لها القيام بثلاث عمليات عسكرية، الأولى «درع الفرات» آب 2016، والثانية «غصن الزيتون» كانون ثاني 2018، والثالثة «نبع السلام» تشرين أول 2019، فيما جهدت منذ نحو عامين لإطلاق الرابعة، لكن الظروف لم تسمح انطلاقاً من اعتبارات عدة أبرزها الافتراق الروسي- الأميركي الحاصل في أوكرانيا منذ شباط 2022، ثم التموضعات «الزئبقية» التركية تجاه ذلك الحدث الذي بدا أشبه بحرب عالمية تخاض على جغرافيا محدودة.

أيقنت أنقرة، صيف العام الماضي وخريفه، أن «الإذن» بعملية عسكرية تشنها قواتها ضد مواقع سيطرة ميليشيات «قسد» أمر قد يطول انتظاره على الرغم من التقاربات الحاصلة مؤخراً فيما بينها وبين واشنطن، ثم إن الرهان على انسحاب أميركي من سورية، على الرغم من واقعيته، فإن انتظار وقوعه هو أشبه بـ«مضيعة للوقت»، هنا كان لافتاً التصريح الذي أطلقه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الـ4 من آذار الجاري، وعبر فيه عن «عزم بلاده التخلص نهائياً من حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وسورية بحلول الصيف المقبل»، والتصريح يحمل بين طياته «ملل الانتظار»، لكن يحمل أيضاً وجوب عدم «إضاعة الوقت» الذي برز في منحى آخر تمثل في محاولة التقرب للعراق الذي تتيح المعطيات على جبهته حرية للحركة أكبر من تلك الحاصلة على الجبهة السورية.

يوم الخميس الـ14 من آذار زار وفد تركي رفيع العاصمة العراقية بغداد، وضم كلاً من وزيري الدفاع والخارجية إضافة إلى رئيس الاستخبارات التركي، والتقى الوزراء بنظائرهم العراقيين، حيث يشير البيان الصادر في نهاية الاجتماعات إلى أن الطرفين اتفقا على إنشاء «إطار إستراتيجيات للعلاقات الثنائية»، وعلى التأسيس لـ«آليات اتصال منتظمة»، كما أكد البيان على أن الطرفين ينظران إلى «حزب العمال الكردستاني على أنه تهديد أمني لكل من تركيا والعراق على حد سواء»، وتباحثا في «الإجراءات الواجب اتخاذها ضده».

الراجح هنا ثمة تلاقٍ تركي- عراقي للتضييق على «حزب العمال الكردستاني» بآليات لم يتم وضع سقوف لها حتى الآن، أما السقوف فسوف تتحدد تبعاً للاستجابة التركية على مطلب عراقي بدا شديد الأهمية بالنسبة لبغداد وهو يتمثل بالتزود بحصص كافية من مياه نهري دجلة والفرات بعد أن شحت مياههما خلال السنوات الخمس الماضية بدرجة باتت تهدد باتساع رقعة التصحر داخل جغرافيا العراق التي لطالما اشتهرت بأنها أرض الخصب والزراعة، ناهيك عن أن استمرار تدفق النهرين كان قد شكل، تاريخياً، عامل قوة في مركزية السلطة التي كانت علامة بارزة في التاريخ الراسم لمسار الحضارة في بلاد ما بين النهرين، والراجح أيضاً أن هذا سيتحدد خلال زيارة أردوغان المقررة لبغداد منتصف شهر نيسان المقبل، وهي، إذا ما حدثت، فإن ذلك سيرمز إلى تلاقيات اتسع مداها ما بين أنقرة وبغداد إبان زيارة الوفد التركي إلى هذه الأخيرة، ومن الممكن لها أن تؤدي لدخول البلدان في علاقات استراتيجية قد تغير المعادلات القائمة في المنطقة برمتها.

يبدو أن استشعار «حزب العمال الكردستاني» للخطر، وفي الأمر ما يدعو إليه، لم يدفع بهذا الأخير سوى نحو خطاب يعرض للأزمة ولا يقدم شروحاً لتضاعيفها، فصحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الناطقة باسم الحزب قالت في عددها الذي أعقب صدور بيان بغداد: إن «تركيا دائماً تسعى إلى توسيع سيطرتها على أراضي جيرانها من أتاتورك إلى أردوغان»، وأن «الهدف من ذلك هو العودة إلى حدود الدولة العثمانية»، وإذا ما كانت هناك جوانب عدة تسترعي الانتباه في منهجية الخطاب الذي تقدمه الصحيفة، وهو بالتأكيد يمثل رأي الحزب، لكن السؤال هو: من الذي يشجع أنقرة، ويقدم لها الذرائع، لكي تراودها تلك الأماني؟ ثم هل تأتي مقاومة «الحزب» لتلك الأماني من باب الحرص على وحدة أراضي دول المنطقة؟ أم لغايات أخرى باتت صارخة عند هذا الأخير؟

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن