لم تتعرض إسرائيل في جبهتها الداخلية إلى انقسامات حزبية سياسية وكذلك اجتماعية وطائفية في الحرب التي شنتها باسم «السيوف الحديدية» رداً على عملية طوفان الأقصى في قطاع غزة كالتي تتعرض لها الآن، وهي لم تستطع حتى خلال أكثر من ستة أشهر من استخدام كل قدراتها العسكرية والوحشية وكل قدرات الدعم الذي توافر لها من الغرب كله، امتصاص هذه الانقسامات أو تخفيف حدة نتائجها وانعكاساتها الكارثية على معنويات واقتصاد كيانها الاستيطاني كله، وتبين للعالم كله أنه لو لم تقف الولايات المتحدة وكل دول الغرب الاستعمارية التقليدية إلى جانب إسرائيل لما تمكنت من المحافظة على وجودها بعد كل هذا الزلزال غير المسبوق الذي نتج عن عملية طوفان الأقصى، وبدا واضحاً أن هذه الكتلة الغربية الاستعمارية أخذت تسعى الآن بشكل مكثف لإنقاذ إسرائيل من مضاعفات هذا الزلزال الذي بات يهدد وجودها، فطلبت من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الإعلان عن موافقته على مشروع إقامة دولة فلسطينية وشق طريق إنشائها كنهاية للحرب التي شنها ودفعت إسرائيل ثمنها باهظاً منذ السابع من تشرين أول الماضي، لكن نتنياهو أعلن على رؤوس الأشهاد من الحلفاء إلى الأعداء أنه لن ينهي هذه الحرب بإعلان كهذا، وهذا يعني بلغة واضحة أنه لن يوافق على وجود أي كيان سياسي فلسطيني مهما كان نوعه ولن يقبل بمنحه أراضي تحت الاحتلال، وبهذا الشكل يكون نتنياهو قد تطابق مع كل التغييرات التي فرضتها حكومات إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة وأهمها استمرار الاحتلال وحرية تصرف إسرائيل بكل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وترى الولايات المتحدة والغرب كله كيف كان الكيان الإسرائيلي يستولي على معظم الأراضي المحتلة ولا تفعل شيئاً منذ بداية سبعينيات القرن الماضي حتى هذه اللحظة، بل تكتفي فقط بالإعلان بأن «سياسة الاستيطان الأحادية التي تتبعها إسرائيل غير شرعية»، وهذا يعني أنها تريد من الفلسطينيين الموافقة على سلب أراضيهم، إلى أن أصبح عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس أكثر من مليون بموجب إحصاءات محايدة، وتبين أن السلطة الفلسطينية التي أنشئت بموجب اتفاقات أوسلو منذ عام 1993 لا تملك أي صلاحية مدنية إلا على 12 بالمئة من أراضي الضفة الغربية والقدس طوال خمسين عاماً، وحتى على هذه النسبة كانت كل حكومات الكيان تعمل على منع نشوء دولة، فإذا كانت الولايات المتحدة والغرب كله من المتواطئين مع هذه السياسة الاستيطانية ونتائجها في منع وجود إمكانية لإنشاء دولة، فهل لديهم جديد يسمح بنزع المستوطنات والمستوطنين من الأراضي المحتلة منذ عام 1967 لإقامة الدولة؟
لا أحد يشك بأن المقاومة التي استمرت منذ أكثر من خمسين عاماً وصمود شعب بلغ عدد أفراده داخل فلسطين سبعة ملايين مقابل ستة ملايين ونصف المليون من اليهود يتمسكون بوطنهم ومستقبلهم فيه، مع بقية اللاجئين الفلسطينيين الموجودين خارجه، ستضع العالم أمام مسؤوليات لا تستطيع القوى الاستعمارية تجاهلها أو رفض استحقاقاتها لمصلحة الشعب الفلسطيني، فحين أبعد إرهاب المنظمات الصهيونية العسكرية من فلسطين 800 ألف وسلب 80 بالمئة من أراضي فلسطين عام 1948 لم تكن معظم الدول في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية مستقلة، على غرار معظم دول الشرق الأوسط، لكننا نشهد اليوم وجود عالم تدرك شعوبه أن زمن الاستعمار وسلب أراضي وأوطان الشعوب ولى ولا يجب أن يبقى، وما قامت به إسرائيل في حربها الوحشية لن يمر بسهولة كما تتصور هي والولايات المتحدة بعد أن أصبحت الشعوب هي التي تصنع أسلحتها وتقاوم بها قوى الاحتلال، وهذا ما جرى في العقود الماضية في العراق وفي أفغانستان وفي اليمن، وهذا ما حققته دول محور المقاومة وحزب اللـه وفصائل المقاومة الفلسطينية، حين تحرر لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وكانت أول أرض عربية تتحرر دون قيد أو شرط من أيدي قوات الاحتلال منذ عام 1948، وهو نفس ما حققته فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2005، وتحاول إسرائيل إعادة احتلاله في حربها الراهنة، وإذا كان الغرب قد أجبر جزءاً من يهود أوروبا على الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلى فلسطين حين كانت محتلة من بريطانيا، فإنه أصبح عاجزاً الآن عن تهجير يهود الغرب إلى فلسطين بعد أن فقدت إسرائيل بالهجرة المعاكسة الملايين من المستوطنين الذين عادوا إلى أوطانهم التي جيء بهم منها وبعد أن توقفت الهجرة إليها بسبب مقاومة الشعب الفلسطيني وتدميرها لأمن هذا الكيان، ولم يعد من المستغرب الآن أن نجد يهوداً أوروبيين وأميركيين ينددون علناً وفي مختلف المسيرات بما يقوم به الكيان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، ويتهكم بروفيسور ألماني يهودي على إسرائيل قائلاً: «ألمانيا التي قتلت من شعوب العالم مئة مليون في حربين عالميتين، ومن بينهم يهود أوروبا، أصبحت تعتقل يهودا بتهمة معاداة السامية لأنهم ينددون بما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة، وهو ما قامت به ألمانيا نفسها في الحرب العالمية الثانية»!