كان من المحير معرفة من يقف وراء العمل الإرهابي الذي ضرب قاعة للاحتفالات هي الأكبر في أوروبا في مركز «كروكوس سيتي هول» في مدينة كراسنوغورسك بضواحي العاصمة الروسية موسكو، وجاءت الجريمة بعد نحو أسبوع من فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بولاية جديدة تستمر مدة ست سنوات وبنسبة تصويت هي الأعلى في تاريخ روسيا، وبعد أيام من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه إرسال قوات فرنسية تعدادها 2000 مقاتل إلى أوكرانيا للمشاركة في العمليات العسكرية، وبعد إعلان نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف أن تدمير الجنود الفرنسيين سيكون أولوية للجيش الروسي، وأيضاً بعد يومين من إعلان المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن نية الـ«ناتو» إرسال قوات إلى أوكرانيا تعني أن العملية العسكرية الروسية الخاصة قد تحولت إلى حرب، في ظل الخلافات الأوروبية حول التوافق على دعم كييف وجيشها عقب الفشل في إدارة العمليات العسكرية والخسارات المتتالية للأراضي والمدن والمواقع، وأيضاً بالتزامن مع التلويح الأميركي بوقف المساعدات المخصصة لأوكرانيا على خلفية الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين حول أولويات السياسة الأميركية في الأشهر الأخيرة من ولاية بايدن، إضافة إلى أن الجريمة ارتكبت بعد يوم فقط من استخدام روسيا والصين حق النقض الفيتو لتعطيل مشروع قرار أميركي لا يتضمن الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، بل يعطي مزيداً من الوقت والغطاء السياسي لارتكابات إسرائيل ومجازرها في غزة.
مباشرة تبنى تنظيم الدولة الإسلامية «ولاية خراسان» عبر وكالة أعماق الجريمة، ثم تم نفي هذا الإعلان، لتتجه الاتهامات بشكل تلقائي إلى أوكرانيا وليبدأ الحديث عن تورط الاستخبارات الغربية والأوكرانية، ولتعلن الأجهزة الأمنية الروسية خلال أقل من 24 ساعة القبض على عناصر الخلية الأربعة الذين نفذوا الجريمة الإرهابية وهم في طريقهم إلى أوكرانيا وتتوالى اعترافاتهم التي تحدثت بشكل واضح عن تلقي الأموال والتوجيه عبر تطبيق تلغرام لتنفيذ هذه الجريمة.
السؤال الذي كان لا بد من طرحه في هذا التوقيت: لماذا استبعاد فرضية تورط تنظيم الدولة الإسلامية وربط الموضوع بأوكرانيا واستخباراتها واستخبارات الغرب الداعمة؟
الجواب بسيط ولا يحتاج إلى كثير من التفكير، فمقارنة بسيطة بين أسلوب التنفيذ والتوثيق لكل الأعمال الإرهابية الفظيعة التي ارتكبها التنظيم الإرهابي في سورية والعراق منذ إعلان قيامه عام 2014 تحت مسمى الدولة الإسلامية وتعيين أبو بكر البغدادي خليفة لها، يوضح دون أدنى شك أن من قاموا بجريمة كروكوس، لا يمتون بأي صلة للتنظيم الإرهابي ولا لولايته في خراسان التي عرف عنها أنها من أكثر الولايات تنظيماً وتدريباً.
فالعملية رغم آثارها الكارثية ومقتل ما يقرب من 137 شخصاً وإصابة 180 آخرين، في حصيلة غير نهائية ومرشحة للارتفاع، إلا أنها لا تشبه أبداً نهج التنظيم الذي يعتمد أساليب أكثر احترافية وابتكاراً للإجهاز على كل ما يراه في طريقه مع التوثيق الإعلامي الاحترافي بل السينمائي أحياناً.
عملية الاقتحام المهلهلة وإطلاق النار بهذا الشكل العشوائي بينت أن من نفذوها هم عبارة عن مبتدئين لم يتلقوا إلا تدريبات بسيطة على إطلاق النار، وباستخدام الأسلحة المتوافرة.
لكن رغم ذلك ولو أننا وافقنا أصحاب الرواية على أن التنظيم الإرهابي هو المسؤول عن هذه الجريمة النكراء، فلا بد لنا من ذكر بعض الاستنتاجات المنطقية:
فالدولة الروسية لا تحتاج مبرراً إضافياً للاستمرار بضرب النظام الأوكراني، مادام أي مبرر جديد لن يشكل فرقاً في المحافل الدولية التي لم تعد تستمع إلا إلى الرواية الغربية والإعلام الغربي المنحاز الذي تناسى جرائم نظام كييف بحق سكان دونباس والقرم والتي دفعت روسيا لإطلاق العملية العسكرية الخاصة.
كما أن الحديث عن أن العملية منفذة ومدبرة من داعش لا يضير روسيا في شيء، لأن ذلك يثبت صوابية خيارها واصطفافها ضد هذا التنظيم في سورية وعملها على القضاء عليه بشكل استباقي قبل أن يشتد عوده ويتفرغ للعمل داخل حدودها، أضف إلى أن وقوف تنظيم الدولة وراء هذه العملية الإرهابية لو ثبت، وفق المخطط الغربي، الذي وضع المنفذين أو اختارهم بعناية بأشكالهم وانتماءاتهم، ليوحي المشهد بذلك، فإنه يثبت أن هذا التنظيم كان ولا يزال صنيعة أميركية وهو ما ذكرته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وغيرهم في أكثر من موقع، لذلك يقوم بدوره الطبيعي كعنصر في الجوقة الأميركية وحرب واشنطن المستمرة ضد موسكو وحلفائها في العالم.
يثبت توقيت هذه الجريمة ومكانها أيضاً، وإذا ما ثبت أن داعش من نفذها، أن لا علاقة للتنظيم بالإسلام ولا بالإنسانية التي تنطّع لها في سورية والعراق مع إعلائه لشعارات نصرة المظلوم، فالفلسطينيون في الضفة وغزة مع مقدساتهم الإسلامية والمسيحية يتعرضون للإبادة الجماعية منذ ستة أشهر، وها هو تنظيم الدولة يلبي استغاثاتهم اليومية ويضرب قريباً من القطب الشمالي في ضواحي موسكو!
ومع التذكير بأن واشنطن ولندن حذرتا رعاياهما قبل فترة قصيرة من ارتياد الأماكن والمراكز التجارية وتحديداً الحفلات الموسيقية في روسيا، يمكننا ببساطة أن نستنتج قيام المخابرات الأوكرانية ومن خلفها الغربية والأميركية بارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة بحق مدنيين عزل كانوا يقضون عطلتهم الأسبوعية في متابعة عرض موسيقي ثم التلطي وراء تنظيم داعش مجدداً.
بالمحصلة يبدو أن الوقت بدأ يضيق على الـ«ناتو» وواشنطن ولندن مع اقتراب الانتخابات الأميركية التي يبدو أنها وفق استطلاعات الرأي ستعيد ترامب إلى سدة الرئاسة محملاً بوعوده حول عدم جدوى الـ«ناتو» وضرورة إيقاف هذه الحرب بعدم تقديم أي دعم جديد لأوكرانيا، ما سيبقي الـ«ناتو» ودوله، وحيدة في الساحة دون دعم سياسي أو مادي، وبالتالي كان لا بد من محاولة استفزاز موسكو لتقوم بعمل يتيح للحلف الأمني العسكري أن يقدم لجمهوره الممتعض أصلاً من سياساته وأخطائه، مبرراً يشد عصبه ليمنحه غطاء ليستمر في سرقة الناخب الغربي والأميركي ويدخل إلى المعركة بشكل مباشر ويبدأ بإرسال جنوده إلى أوكرانيا بشكل مكثف ما سيخلق واقعاً جديداً قد يصعب على الرئيس ترامب تغييره أو التملص منه.
ينسى الغرب دوماً وتحديداً واشنطن ولندن، أن الفيصل في القرارات الروسية في كل الشؤون هو الأخلاق، التي بدأت منذ مدة طويلة تلك العواصم تتخلى عنها وعن التقاليد الأسرية التقليدية لتحل محلها ثقافة الشذوذ والكذب، وأن روسيا التي دخلت هذه الحرب لم تتخلَّ يوماً بعسكرييها وسياسييها عن الإنسانية التي كثيراً ما دفعتها لتخسر أرواحاً وتقدم تضحيات مقابل ألا تنزلق إلى المستنقع الآسن الذي تسبح فيه واشنطن ولندن والـ«ناتو» في تطبيق للمثل الشهير، «لا تصارع خنزيراً في الوحل فتتسخ أنت ويستمتع هو»، كما تنسى واشنطن ولندن أن الشعب الروسي الذي قدم 20 مليون شهيد وملايين الجرحى ليحمي أوروبا والعالم من هتلر ونازييه، لن يعجزه تنظيم مأجور ممول أو نظام نازي يوظف دولته لتحقيق مخططات الغرب وأفكاره العفنة، ويضحي بشعبه المسكين فداء لأكاذيبه.
صحفي سوري