وسط حالة من التشنج الذي شهدته أروقة مجلس الأمن خلال الفترة السابقة نتيجة التجاذب والكباش الذي ساد الجلسات الخاصة بمناقشة أوضاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ ما يقارب ستة أشهر، أو فيما يتعلق بالتصويت على القرارات المقدمة والتي كانت تعبر عن طبيعة المواقف المنقسمة حول ما يحصل من تطورات بمنطقة الشرق الأوسط، تبنى مجلس الأمن قراراً بتأييد أربعة عشر عضواً وامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت لأول مرة، للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان تحترمه جميع الأطراف، والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن.
هذا القرار الذي قدمته الدول العشر غير الدائمة العضوية بمجلس الأمن، ومنها الجزائر العضو العربي الوحيد بالمجلس، جاء بعد ثلاثة أيام على مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية وتم رفضه من خلال استخدام روسيا الاتحادية والصين الشعبية لحق النقض «الفيتو» المزدوج، كتعبير عن انعكاس توحيد الموقف من خصوم الولايات المتحدة داخل المجلس وقطع الطريق أمامها لاتباع سياسة المناورة لمنح قوات الاحتلال غطاء الاستمرار بعدوانها على قطاع غزة ومساعدته في الوصول لأهدافه سياسياً بعد عجزه الواضح في بلوغها من خلال استخدام القوة العسكرية الفائضة التي تبعها في عدوانه الدموي.
وهو ما يوحي أن القرار تم تبنيه ودون معارضة من الولايات المتحدة الأميركية أو حلفاء إسرائيل التقليديين من أعضاء دائمين وغير دائمين مثل بريطانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرهم، وهي خطوة إيجابية من حيث الشكل للضغط على هذا الكيان لوقف عدوانه على قطاع غزة، إلا أن الأعضاء في توافقهم على تبني هذا القرار وخاصة ما يتعلق بجانب حلفاء إسرائيل» لا تنبع من إنسانيتهم التي تفجرت فجأة وليست نتيجة مخافتهم على حياة الفلسطينيين عموماً وأهالي غزة بشكل خاص، بل لتحقيق أهداف عدة تصب في محاولة تبييض صورة مواقفهم أمام الرأيين الداخلي والدولي، وهو ما يبرز خصوصاً بالموقف الأميركي الذي أراد الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية للانخراط بالمحادثات غير المباشرة بشكل جدي، وليس تغييراً للموقف الأميركي الداعم لإسرائيل، وهو ما ألمح إليه منسق الاتصالات داخل مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي الذي نفى تغيير سياسة بلاده الداعمة لإسرائيل بعد امتناع دولته عن التصويت داخل مجلس الأمن.
وعليه فإن امتناع واشنطن عن التصويت على القرار الذي تم طرحه في مجلس الأمن ينطلق من اعتبارات تكتيكية عدة أبرزها:
– تحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية وحلفاء إسرائيل التقليديين أمام الرأي العام الدولي ومحاولة تملصهم ولو شكلياً عن مسؤولية المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة.
– الرغبة الأميركية في الضغط على نتنياهو الساعي لإطالة أمد الحرب حتى وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب نتيجة رغبة نتنياهو أولاً في الانتقام من بايدن الذي نجح في إسقاط نتنياهو عام 2021 عندما دعم وصول ائتلاف لابيد_بينت للسلطة، وللحصول على المزيد من الدعم والانخراط الأميركي في الصراع على مستوى المنطقة ولاسيما في ظل ما أبداه ترامب خلال ولايته السابقة من دعم غير مسبوق للكيان وإدارة الصراع مع إيران ومحور المقاومة.
– تحسين وضعية المرشح الديمقراطي جو بايدن للرئاسة ومحاولة استعادة شعبيته على المستوى الداخلي.
فما يؤكد هذه المعطيات، هو أن واشنطن لو لم ترد تمرير القرار كانت دفعت بإحدى الدول الأعضاء الدائمين أو غير الدائمين للتصويت ضد القرار هذا من جانب، ومن جانب آخر يلاحظ أن وتيرة الضغط الأميركي التي تمارس على إسرائيل للخضوع للتوجهات الأميركية شهدت تدرجاً عبر تراجع بعض الدول عن توقيف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»، ومن ثم إعلان كندا وقف تصدير السلاح للكيان والتي ترافقت مع إقدام بعض المنظمات لإدانة مجازر قوات الاحتلال، بالتزامن مع تصريحات أطلقها زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ يدعو من خلالها نتنياهو للاستقالة وإطلاق انتخابات جديدة، وصولاً لتمرير قرار وقف إطلاق النار في شهر رمضان.
لذلك فإن القرار الذي تم تبنيه في مجلس الأمن والمتضمن وقفاً فورياً لإطلاق النار في قطاع غزة، هو تحول تكتيكي وليس إستراتيجياً بالموقف الأميركي، لأن القرار يزيد الضغط على الكيان الإسرائيلي، وخاصة أن هذا القرار لا يدين الفصائل الفلسطينية وخاصة حماس والجهاد التي اتهمها السفير الإسرائيلي بأنها سبب هذه الحرب عندما قال: إن «المجزرة التي ارتكبتها حماس» هي التي تسببت في هذه الحرب، مشيراً إلى مرور ستة أشهر «ولم يدن مجلس الأمن القتلة الذين بدؤوا هذه الحرب»، وعليه هناك جملة من النقاط التي تثبت التأكيد أن الموقف الأميركي هو تكتيكي بناء على:
أولاً- إن الكثير من قرارات مجلس الأمن بصفة عامة هي قرارات ملزمة، لكن هذا القرار لا يتمتع بأي صيغة تنفيذية، لأنه صدر بناء على الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، ولم يصدر بناء على الفصل السابع، ولم تتم الإشارة فيه إلى مسألة تهديد الأمن والسلم الدوليين، وذلك لتجنب استخدام المندوبة الأميركية لحق الفيتو، وهو ما يجعله غير ملزم فعلياً، وهو ما صرحت به ليندا توماس غرينفيلد.
ثانياً- القرار يدعو لوقف مؤقت للعمليات العسكرية بشرط إطلاق الأسرى دون شروط، بمعنى أنه إن لم يتم التوصل لاتفاق حول تبادل الأسرى بين فصائل المقاومة والكيان الإسرائيلي فلن ينفذ القرار الذي تم تبنيه في مجلس الأمن، أي إن الامتناع الأميركي هو للضغط على الفصائل وإسرائيل للتوصل نحو اتفاق يعنى بالأسرى فقط.
ثالثاً- القرار هو مؤقت لكونه جاء بصيغة اتفاق وقف إطلاق النار في شهر رمضان، أي لمدة خمسة عشر يوماً أو أقل، وليس بالضرورة أن يشكل أرضية لوقف مستدام لوقف إطلاق النار.
الغضب الذي أبداه السفير الإسرائيلي في مجلس الأمن غلعاد إردان، نتيجة اعتماد القرار وعدم استخدام الولايات المتحدة الأميركية لحق النقض الفيتو واتخاذها موقف الممتنع عن التصويت، قد يبدو من الناحية الشكلية توسع دائرة الخلاف الأميركي الإسرائيلي، إلا أنه في الواقع هو يعكس الخلاف الشخصي بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو اليمينية، والدليل يتمثل في مؤشرين الأول هو تصريح المندوبة الأميركية عدم تغيير موقف بلادها الثابت من دعم حق إسرائيل، والثاني توقيع الرئيس الأميركي جو بايدن قبل ساعات لقرار يتضمن تمرير مساعدات لإسرائيل بقيمة أكثر من ثلاثة مليارات دولار.
ويبقى السؤال الأبرز هنا: هل ستلتزم حكومة الاحتلال لهذا القرار أم سيكون لها رأي آخر تواجه من خلالها المجتمع الدولي وحيدة كما هدد نتنياهو سابقاً؟
معظم التقديرات تؤكد أن حكومة الكيان الإسرائيلية التي يقودها نتنياهو وائتلافه اليميني، لن تنصت لما تبناه مجلس الأمن لوقف إطلاق مؤقت في قطاع غزة، لذلك من المرجح أن تكون ردة الفعل الإسرائيلية وفق إحدى الصور التعبيرية التالية أو جميعها:
أولاً- تحرك دبلوماسي إسرائيلي عبر البعثات الدبلوماسية أو من خلال المؤسسات الصهيونية لإظهار وضع إسرائيل بأنها وحيدة تقاتل ما تسميه «محور الشر»، وهو ما برز في كلام المندوب الإسرائيلي في مجلس الأمن بقوله إن إسرائيل باتت وحيدة اليوم.
ثانياً- تصاعد وتيرة العدوان على قطاع غزة في كل أرجاء الجغرافيا الغزاوية وخاصة زيادة الخناق على الشمال، وهو ما سيجعل الوضع أكثر مأساوية خلال الساعات والأيام المقبلة لكامل غزة، وأكثر خطورة على جبهة الشمال مع لبنان في حال أرادت حكومة الاحتلال خلط الأوراق وجر الجميع نحو الهاوية.
إضافة لذلك قد نشهد عنصرية صهيونية من قوات الاحتلال أو من المتطرفين تجاه المصلين في المسجد الأقصى بعد تهديدات وزير الأمن بن غفير باجتياح الأقصى خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان، وانسياب هذا التطرف نحو زيادة الخناق على أهالي الضفة الغربية.
ثالثاً- اعتماد هذا القرار والموقف الأميركي الممتنع عن التصويت قد يدفع إسرائيل لارتكاب حماقة في مدينة رفح عبر تصعيد عملياتها هناك بشكل مباشر أو جزئي، ولاسيما بعدما قرر نتنياهو وقف إرسال وفد أمني كان من المتوقع وصوله الثلاثاء لواشنطن للاتفاق والتنسيق لوضع خطة لاجتياح رفح.
رابعاً- تأليب اللوبي اليهودي في أميركا على حكومة جو بايدن وممارسة الضغط الإعلامي والسياسي عليه قبل بدء الانتخابات.
خامساً- ممارسة الضغوط على مسؤولي المنظمة الدولية من أمين عام وغيرهم لدفعهم نحو الاستقالة، واتهام الأمم المتحدة بتبني مواقف غير موضوعية وفق مزاعم الاتهامات الإسرائيلية، وقد نشهد في هذا الإطار افتعال اتهامات ونشر إشاعات يتم إلصاقها بمسؤولي المنظمة الدولية.
سادساً- عرقلة ومنع إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع وخاصة الشمال ومنع «أونروا» من إدخال أي مساعدة للقطاع واستهداف العاملين بها والمؤسسات التابعة لها.
القرار هو انتصار معنوي وسياسي وقانوني يسجل لمصلحة الشعب الفلسطيني ومقاومته، إلا أنه لا يمكن البناء عليه لوقف العدوان، لذلك يبقى الرهان على استمرار المقاومة في قدرتها على إطلاق الصواريخ وإيقاع الخسائر بقوات الاحتلال، وكذلك باستمرار الحاضنة الشعبية في دعم المقاومة رغم كل مآسي هذه الحاضنة، على أمل أن تخرج السلطة من قيود أوسلو، فما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة بل بالمقاومة وليس بالاستسلام ونعت المقاومة بالمغامرة.
كاتب سوري