تستمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر للشهر السادس على التوالي دون تمكن كيان الاحتلال من تحقيق نتائج على الأرض، وإنما يوغل في جرائمه وتدميره وتهجيره وانتهاكاته للقوانين والأعراف الدولية ولحقوق الإنسان.
باتت تحكم الحرب الحالية في فلسطين مجموعة من التناقضات والتوافقات التي تصل حد التباين، الأمر الذي يقتضي منا فهم عميق لطبيعة تلك التناقضات والتوافقات، التي تجري إزاء القضية الفلسطينية عموماً والحرب الإسرائيلية الحالية على تلك المساحة الجغرافية الصغيرة المتمثلة بقطاع غزة المحاصر، وذلك بقصد الفهم لتفسير ما يجري من مواقف وقرارات دولية تتخذ بشأن الحرب على غزة، والتي من أبرزها:
أولاً: ينطلق التناقض الرئيس من الوضع الداخلي الإسرائيلي، إذ على الرغم من الخلافات القائمة بين اليمين واليسار في إسرائيل على السلطة، والتي عمقتها الحرب على قطاع غزة بعد ليل السابع من تشرين الأول الماضي، يوم طوفان الأقصى، تلك الخلافات مردها إلى الخلفية التاريخية لنشوء الكيان على اعتباره تجمعاً استيطانياً لأفراد من قوميات متعددة وأصول حضارية مختلفة، ورغم هذا التباين ذي الجذور الاجتماعية والحضارية، إلا أن هذه الخلافات تنتفي عندما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين، وما يؤكد ذلك أنه منذ نشوء الكيان الإسرائيلي وتعاقب قادته المنتمين سواء إلى اليمين أو إلى اليسار، وإلى قوميات وحضارات مختلفة فإن الممارسات والإجراءات العدائية ذاتها قد تكررت بحق الفلسطينيين، ومن ثم فإن أي تغيير اليوم في القيادة السياسية الإسرائيلية ليس من الضرورة أن يؤدي إلى تغيير في ممارساته العدوانية ضد قطاع غزة والفلسطينيين عموماً، فكل هذا الخليط الغير متجانس، يشكل وحدة صهيونية متفقة على ثوابت مصلحية، منها الأساس الديني اليهودي لنشوء الدولة، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، ورفض التنازل عن الأرض بل قضم المزيد من الأرض، ودور جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق ذلك.
ثانياً: يبدو من المعطيات الدولية الحالية، أن هناك تناقضاً في المواقف الدولية السابقة تجاه كيان الاحتلال وحربه العدوانية على قطاع غزة، فبعد أن تبنت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية موقفاً داعماً لكيان الاحتلال في حربه، ورافضاً لأي قرارات دولية تدين العدوان أو تدعو إلى وقفه، فإن واشنطن سمحت على مضض بمرور قرار مجلس الأمن الدولي الذي ينص على وقف إطلاق النار في غزة حتى نهاية شهر رمضان الحالي، والذي قد يتمدد خلال أيام عيد الفطر السعيد، وربما يقود إلى وقف دائم لإطلاق النار، فهذا التبدل في الموقف الأميركي بالامتناع عن التصويت ضد مشروع القرار، هو تبدل مهم جداً ويحمل مؤشرات كبيرة عن حالة التوافق الدولي على عدم قبول الإمعان الإسرائيلي في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ويتناقض مع المواقف الغربية السابقة ومنها موقف واشنطن الداعم لكيان الاحتلال بذريعة أن عدوانه يأتي في سياق الدفاع عن النفس ضد المقاومة الفلسطينية، وكذلك هو مؤشر على الوضع الخارجي المأزوم لكيان الاحتلال، بالإضافة إلى وضعه الداخلي المتصدع، إذ إن كم الشهداء والمصابين، الذين معظمهم من الأطفال والنساء، لم يعد مقبولاً، وهو ما استدعى موقفاً دولياً رافضاً لتلك الممارسات الإسرائيلية، يأتي ذلك بالتوازي مع اتخاذ محكمة العدل الدولية قرارها في قضية محاكمة كيان الاحتلال لارتكابه مجازر إبادة جماعية، وقضت بأن يتخذ كيان الاحتلال كل الإجراءات الضرورية لإدخال المساعدات الغذائية لأهل غزة المحاصرين تحت النار، أي أن التبدل الخجول في موقف المنظمة الدولية أتى متوافقاً ومتزامناً مع التبدل في موقف واشنطن، وهو ما يزيد من الأزمة الخارجية، ويعمق الأزمة الداخلية لكيان الاحتلال الإسرائيلي.
على صعيد متصل، فإن قناعة شبه تامة ذات شقين قد رسخت لدى كيان الاحتلال وداعميه، الشق الأول؛ من المستحيل القضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والشق الثاني؛ أن الصورة الإجرامية الحقيقية لكيان الاحتلال قد انكشفت أمام الرأي العام العالمي، ومن ثم فإن الاستمرار بالحرب مناقضاً للواقع، ووقف الحرب يحظى بتوافق داخلي وخارجي، وهو ما قد يقود إلى تغيير في مجرياتها نحو وقف دائم لإطلاق النار يحكمه مجموعة من التوافقات وبشكل خاص على صعيد ملف الرهائن والأسرى، وذلك خلال الأيام القادمة.
كاتب سوري