بعد تأجيل عرضه من العام المنصرم أبصر النور في شهر الماراثون الدرامي ((وصايا الصبار)) المأخوذ عن رواية للإنكليزي وليم شكسبير من مسرحية ((ماكبث)) عمل درامي اجتماعي معاصر كتبه وعالجه درامياً فادي حسين وقدم صورة عن الصراع الطبقي حول النفوذ والمال والثأر، واضعاً بين يدي المشاهد السوري عملاً سورياً برمته.
عمل معاصر
لعل أبرز ما يميز العمل عن غيره من الأعمال التي تتسم بصفات تشويقية ومثيرة وأحداث ترتبط بالجريمة، أنه يسير في طريق مرسوم بعناية ليمسك بيد المشاهد إلى النهاية بطريقة منطقية بعيدة عن الألغاز ويغوص في الخفايا النفسية الداخلية التي حملت شخوص العمل للقيام بما يقومون به، إضافة إلى التعمق بالدوافع التي أحدثت السلوكيات التي عليها الشخصيات، علاوة على أنه يندرج ضمن قائمة الأعمال المعاصرة ولا يستهل حلقاته بعبارة «أي تشابه بين العمل والواقع هو بمحض الصدفة»، ربما عرضت القصة سابقاً أو استنزفت ولكن المهم كيفية التقديم بصورة بصرية ممتعة تبلغ ذروتها عندما يقتل خلدون رب عمله الحاج سلوم، فتصل الحكاية إلى أشدها من عند خلدون «عبد المنعم عمايري» الذي يجيد لعب الأدوار المركبة، ويتقن فن الشخصية المتقلبة، ويبرهن على أنه رقم صعب في دور المتخبط داخلياً والذي يعيش صراعات مع نفسه، لتجاريه نديمة «أمل عرفة» التي تتبنى الشخصية من الداخل وتغوص في عوالمها وتسبر أغوارها وتتبنى سلوكياتها، فتقدم عرفة على الشاشة خميرة تعب سنين طوال معتمدة مبدأ التوازن في التقديم من دون التصنع أو الإسفاف، مؤكدة أنها بارعة في الخروج من جلدها ولعل ما يدمغ ذلك مقارنة بسيطة بين نديمة هنا وحياة في أغمض عينيك، لنكتشف أنها عبقرية وذكية ورشيقة بالتنقل بين الشخصيات.
استيلاء ونفوذ
تتمحور قصة العمل حول عائلة خلدون الذي يعمل في إحدى الشركات التجارية المملوكة للحاج سلوم الملاح ((فايز قزق)) وعائلته وشركائه، ولاسيما بعد أن يستدرك خلدون بتدبير وتخطيط من زوجته نديمة ((أمل عرفة)) أن عليه الاستيلاء على أملاك وتجارة عائلة الحاج سلوم انطلاقاً من أن خلدون قدم الكثير للعائلة عبر ما يزيد على عقدين من الزمن ولم يلق تجاه ذلك كله إلا القليل، فينصاع خلدون لتعليمات زوجته ومخططاتها وينفذ كل ما تأمره به حتى وإن استدعى الأمر سيلاً من الدماء وإزهاق الكثير من الأرواح، ولعل ما يمكّنه من تحقيق مخططاتها معرفته بكل خفايا الشركة وتجارتها والأعمال غير الشرعية التي يقوم أو قام بها كثير من القائمين عليها أو الشركاء فيها، ما أسهم في زيادة إحكام قبضته على مفاصل الشركة وكل تجاراتها وبالتالي إجبار الشركاء على التنازل عن حصصهم أو القبول بالقليل.
حنكة ودهاء
يفتتح العمل حلقاته باجتماع لخلدون مع وفد من ممثلي إحدى الشركات الأوروبية لإبرام صفقة تعود بأموال طائلة على الشركة، وبتدبير من «نديمة» يتم تحويل الأموال إلى رصيده البنكي بدلاً من رصيد شركة الملاح ومن هنا تبدأ اللعبة، ولكن هل كان صعباً الاستعانة ببعض الأشخاص ذوي الملامح الأوروبية أو على الأقل الاستعانة ببعض المكياج ولون الشعر الذي يوحي بأن الفريق الذي يحضر الاجتماع من الأوروبيين فعلاً، لسنا من الأكاديميين في فن الإخراج، وبالطبع لفريق العمل تبريرات لذلك ولكن بالنسبة للمشاهد العادي ما الرسالة التي يتلقاها من حركة دوران الكاميرا؟ أو التصوير بشكل مائل؟
خلفية تاريخية
من المبالغ فيه قتل أحدهم «جلال» على أتوستراد المزة في وضح النهار وبدراجة نارية عليها لوحات مرورية من دون أن يعترضه أحد أو حتى ينتبه لما حصل ويفلت بعملته، ثم لم نعرف ما الخلفية التاريخية وما الماضي المرير لشخصية مهران «حسام الشاه» الذي يجعله بهذه العدوانية ويختزن كل هذه الشرور ويقتحم البيوت مترئساً مجموعة من الـ«بلطجية» ويقتل هذا وذاك من دون أن ترف له عين.
علاقة وردية
بمرور الحلقات تتكشف الحكايات شيئاً فشيئاً وبطريقة منطقية وسلسة، فبعد الحلقة التاسعة نعرف ما سبب استذكار عمايري لتسنيم باشا وارتعاده من لعنة ملاحقة روحها له بين الحين والآخر، وهو أنها سمعت حواره مع نديمة قبل البدء بتنفيذ خططهم للاستيلاء على الشركة وسحب كل حصص الشركاء وهو ما دفع نديمة لتحريضه على قتلها، كما تعود سحاب ((صفاء سلطان)) من السفر على وقع خبر وفاة والدها وتستأنف علاقتها الوردية بخلدون التي كانا يعيشانها سابقاً وهي تتعامل معه بعواطفها دون تحكيم العقل وهو ما هون عليه الكثير من المفاوضات.
فتتشعب خيوط العمل وتتشابك، وتتكشف الجوانب المختلفة لكل شخصية لنجد أن عصب الحكاية مشدود منذ الحلقات الأولى، لا أدوار استعراضية أو ثانوية أو التفرد المطلق بالبطولة لأحدهم أمام الكاميرا، الكل في مكانه ويؤدي ما عليه بجدارة، كما أن الحدث يلهب قلب المتلقي ويبقيه أسير التوازن والارتباط، إضافة إلى وجود العديد من الأسباب التي تدفعك للتعمق أكثر في التفاصيل لتتعرف إلى سر الخلطة العجيبة لكل هذا الزخم، كما أن في العمل خيوطاً تجعلك تسكن فيها ولا تتمكن من التخلص منها حتى بعد انتهاء المشاهدة.
أداء متصاعد
ينجح العمل في تقديم أداء متصاعد بعد أن بدأ بهدوء مع انطلاقة العرض.
ولا يمكن للمعني بهذه الصنعة أن ينكر الأداء الاحترافي لأبطال العمل، فتتقن رنا العضم الإقناع مهما كان الدور ضحلاً، ليغوص الممثلون في الشخصيات بشكل جدي، فكعادتها أمل عرفة مبهرة في أدائها شريرة تجبرك على التعاطف معها، فلم تخلف بالوعود التي قطعتها للجمهور بأنهم سيرون عملاً في غاية الروعة ووجبة درامية خفيفة ولطيفة قريبة من حياتنا تلامس عواطفنا وتستثير اهتمامنا، وتستفز لهيب الثأر وشهوة السيطرة وحتى إن كانت الحكاية تسير ببطء إلا أنك بتتالي الحلقات تغوص في العمل وتفاصيله ما يجعلك مشدود الأعصاب من دون أن تدري.
فيؤكد حسين أن المشاكل والصراعات الاجتماعية تشيع بشكل كبير بين طبقات المجتمع كافة وفي عالم رجال الأعمال توجد مفاجآت كثيرة ومصالح تتضارب وأخرى تتعارض، لتأخذنا الموسيقا إلى صلب المشهد ببراعة عالية منسابة إلى المسامع بسلاسة وتبث الروح في الحواس، ولعل لمسات المخرج المدروسة قد زادت العمل تألقاً ونجاحاً.
يختتم العمل عرضه عند الحلقة السابعة عشرة معلنة نهاية الحكاية، ومن الجميل عدم لجوء صناعه إلى الإطالة والمماطلة والحشو الزائد الذي لا يجدي نفعاً، فيلقى خلدون مصرعه على يد أحب الناس إليه، سحاب التي طالما أحبها وأحبته ولكنها ضاقت ذرعاً بتجاوزاته وانتهاكاته لممتلكات عائلتها وتجارتهم فدست له السم في الشراب لتتشفى بتعذيبه وموته، وكذلك يفعل التوهم والتهيؤات بابنته عندما كانت بصحبة والدتها في السيارة بعد أن تطاردها أرواح من أسهمت في قتلهم في كل مكان تقع عليه عيناها وهو ما أوقعها في حادث سير جعلها تفقد ابنتها وتفقد عقلها.
ولعل من أبرز الرسائل المستقاة من العمل هو ضرورة تحييد الأبناء عن الخلافات والصراعات المتعلقة لأن ذلك سينعكس سلباً على حياتهم وربما يودي بها تماماً كما فعلت جنى ابنة جبران التي قتلت نفسها بعد النزاعات الكثيرة التي شهدتها بين عائلتها وعائلة الشاب الذي أحبته ((عائلة خلدون)).
كما يحمل راية العمل في البطولة، عامر علي وروبين عيسى وعاصم حواط ووضاح حلوم وغيرهم.